مقال بعنوان: ( كيفية التعامل مع الموتى من منظور الشريعة الإسلامية )
مقال بعنوان: ( كيفية التعامل مع الموتى من منظور الشريعة الإسلامية )
يناقش هذا المقال عددًا من المسائل والتحديات المعاصرة المرتبطة بالتعامل مع الموتى في النزاعات المسلحة المعاصرة وحالات العنف الأخرى والكوارث الطبيعية في إطار الشريعة الإسلامية الدولي الإنساني. ومن بين المسائل والتحديات التي تواجه المتخصصين في مجال الطب الشرعي في السياقات والحالات والقانون التي تتضمن أطرفًا من المسلمين في الوقت الراهن، الدفن الجماعي والتعجيل بالدفن واستخراج رفات الموتى وتشريح الجثث. ويخلص المقال إلى أن النظامين القانونيين وضعا أحكامًا تهدف إلى حماية كرامة الموتى واحترامهم وإلى أنهما يكملان بعضهما بعضًا من أجل تحقيق هذه الحماية في السياقات والحالات المحددة التي تتضمن أطرافًا من المسلمين.
1) البحث عن الموتى وجمعهم
استندت الأحكام الفقهية القديمة، التي تنظم النزاعات المسلحة، إلى نصوص معينة- دينية وتاريخية وقانونية- عالجت في المقام الأول حالات الحرب في القرن السابع الميلادي وفيها (1) كانت الأطراف المتحاربة في بعض الحالات تعرف أعداءها من المقاتلين بالاسم، ويرجع بعض السبب في هذا إلى الانتماءات القبلية، (2) وكانت درجة الدمار والإصابات محدودة للغاية بسبب الأسلحة البدائية المتاحة وما جرت عليه العادة من مباشرة العمليات العدائية بمبعد عن المناطق المأهولة بالسكان. والمقصد من ذلك هو الاشارة إلى التوثيق الدقيق الذي لا يزال بين أيدينا حتى اليوم، ويشمل قوائم بأسماء من قتلوا في المعارك الأولى التي دارت رحاها في حياة النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)- وتحديدًا بين عامي 624 و632- وأسماء أسرى الحرب فضلًا عن بعض من شهاداتهم التي تبين المعاملة التي كانوا يتلقونها وهم أسرى.
وتشير كتب الحديث والسيرة النبوية إلى أن النساء في حياة النبي كنَّ يقدمن في ميدان القتال الأعمال والخدمات الإنسانية التي تقدمها طواقم الرعاية الصحية وجمعيات العون الإنساني في النزاعات المسلحة المعاصرة. وعلى الرغم من أن بعض النساء كن يقاتلن في ميادين المعارك في ذلك الوقت- وهو أمر وثقته العديد من الروايات- فقد تضمنت أدوارهن، كما بينت ذلك نُسيبة بنت الحارث الأنصارية رضي الله عنها (راوية من رواة الأحاديث النبوية وفقيهة كنيتها “أم عطية” (توفيت عام 643)، علاجَ الجرحى والعناية بالمرضى وتحضير الطعام، وقالت الرُبيع بنت معوذ بن عفراء (توفيت عام 665) “كنا نرد القتلى والجرحى إلى المدينة”.
ويُستنبط من رواية الرُبيع التي تبين أن المرأة شاركت في إخلاء رفات موتى المسلمين ومن توثيق حالات القتلى في كل اشتباك عسكري، كما يتبين ذلك على وجه الخصوص في السيرة النبوية، أن عملية البحث عن الموتى وجمعهم من الإجراءات الضرورية التي يجب الاضطلاع بها لضمان احترام كرامة الإنسان. فعلى سبيل المثال، بعد أن وضعت الحرب أوزارها في معركة أحد، طلب النبي من أصحابه البحث عن سعد بن الربيع رضي الله عنه (توفي عام 625) ليتبينوا إن كان من القتلى أم لا يزال على قيد الحياة. وفي المعركة ذاتها، بحث النبيُ عن جثة عمه حمزة رضي الله عنه (توفي عام 625) بعد أن انفض القتال. وتبين السنة النبوية أن البحث عن الموتى في صفوف الجيش المسلم وتحديد هويتهم وجمعهم فرضٌ على المسلمين. وسنناقش فيما يلي التعامل مع الموتى من الأعداء.
2) إعادة الرفات والأمتعة الشخصية الخاصة بالموتى
دفن الموتى فرض كفاية على المجتمع المسلم. وهذا يعني أن المجتمع المسلم بأسره يأثم إن لم يدفن موتاه، إلا إذا كان ذلك يخرج عن نطاق علمهم أو يتجاوز حدود قدرتهم. وكما يتبين من رواية الرُبيع، يلتزم المسلمون بإعادة الموتى من الجنود المسلمين من ميدان القتال إلى أهلهم. وبخلاف ذلك، عندما تستحيل إعادة الموتى من ميدان القتال إلى أهلهم، يُباح دفنهم في قبور جماعية في هذه الحالة من حالات الضرورة كما سيتبين في المناقشة فيما يلي. وبالمثل، هناك سابقة في مطلع التاريخ الإسلامي لإعادة الموتى إلى الطرف المعادي. ففي غزوة الخندق في عام 627، وكان عدد المسلمين فيها أقل من ثلث التحالف الذي ضم مهاجميهم من الأعداء، لقي نوفل بن عبد الله بن المغيرة مصرعه حين حاول القفز وهو يعتلي صهوة جواده ليقتحم الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة لصد هجوم أهل مكة. وعندما عرض أهل مكة مبلغًا من المال مقابل جثة نوفل، أعطاهم النبي جثته ورفض أن يقبل المال.
وفي الواقع، فإن الأحكام الفقهية القديمة لا تتسق في هذا الصدد مع القانون الدولي الإنساني فحسب، بل تتجاوز على ما يبدو قواعد القانون الدولي الإنساني التقليدية في حماية كرامة الموتى واحترام احتياجات أحبائهم. ففي كثير من الحالات، يجيز القانون الدولي الإنساني دفن رفات الميت دون محاولة إعادته إلى أهله طالما أنه “يُدفن بطريقة لائقة”. فعلى سبيل المثال، لم يدفع أحد بأن دفن الجنود في الحرب العالمية الثانية على شواطئ نورماندي، بدلًا من إعادة رفاتهم إلى أحبائهم، يشكل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني، بينما يتوقع الأهل اليوم أن يعاد إليهم رفات أحبائهم بعد الموت.
وعلى أي حال، تنص الأحكام الفقهية القديمة على أن ممتلكات العدو غير المسلم المتوفى تصبح غنيمة حرب- على غرار القاعدة المعمول بها في العلاقات الدولية آنذاك. وتستند هذه الأحكام بشأن غنائم الحرب إلى حد كبير إلى مصادر نصية- القرآن الكريم (الآية 41 من سورة الأنفال) والسنة النبوية- وهي منظمة بالتفصيل في كتب الفقه الإسلامي. وباختصار، يوزع خمس الغنائم على فئات معينة، ويوزع الباقي على الجيش. ويعطي بعض فقهاء الحنفية والشافعية لولي الأمر حرية إعادة الممتلكات إلى الخصم المهزوم. وتنص القاعدة العامة والصارمة على أن ولي الأمر هو الذي يعهد إليه بتوزيع الغنائم، ومن ثم يحرم على المسلمين أخذ أي شيء من الغنائم قبل أن يوزعها عليهم ولي الأمر؛ فهذا من الغلول وهو من الكبائر التي أشار إليها القرآن الكريم في الآية 161 من سورة آل عمران. وبعث الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب (حكم من عام 634 إلى عام 644) بوصايا مكتوبة إلى عماله قال فيها “لا تغلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدًا واتّقوا الله في الفلاحين”.
وفي النزاعات التي دارت رحاها بين المسلمين أو فيما يمكن تصنيفه بأنه نزاعات مسلحة غير دولية، تنص أحكام الفقه الإسلامي القديمة على أن تعاد الأموال والأسلحة المصادرة من المتمردين المسلحين – الأحياء منهم والأموات- إليهم بعد توقف العمليات العدائية. وبمعنى آخر، يحرم على طرفي النزاع أخذ غنائم الحرب في القتال الذي يدور بين المسلمين. وهذا الحكم المحدد، إن اُحترم في القتال بين المسلمين، فإنه كفيل بحماية الكثير من الأعيان المدنية مثل الممتلكات الثقافية والخاصة من النهب أو التدمير. ويصح هذا القول على وجه الخصوص إذا كان أي من الطرفين أو كلاهما يستخدم الشريعة الإسلامية كمصدر مرجعي.
أ.م.د حسن محسن صيهود
قسم الشريعة