مقال بعنوان: لفظة ” ضرب ” في القران الكريم الدلالات والاستعمالات
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين
اما بعد
لقد بلغ القران الكريم ذروة الفصاحة والبلاغة والبيان ،وكان معجزا في شكله ومضمونه ،ومن ابراز دلائل اعجازه دقته العجيبة في اختيار الالفاظ 0 فكل لفظة وضعت في مكانها المناسب في غاية الدقة والجمال بحيث لا يمكن ان نستبدل لفظ باخر مهما تقاربت الالفاظ ،وانها منتقاة من بين مجموعة من الالفاظ بسبب توخي الدقة في معنى الجملة عامة ،وهي فضلا عن دقة اختيارها الدلالي ،تتسم بسمات أخرى كالسلاسة والجزالة والفصاحة وغيرها من الصفات الاخرى 0 وعلى هذا الاساس فأن وجود اللفظة في السياق القرآني ليس وجودا اعتباطيا وإنما هو وجود واع ومقصود ،فكل كلمة في اي جملة هي اختيار ،فالقران الكريم يختار الكلمة قاصدا لفظها ومعناها معا في موقعها المحدد ولها دلالة ومعنى 0 والذي يحدد معنى المفردة ودلالتها السياق الذي وردت فيه تلك المفردة فللسياق دور كبير في تحديد دلالة المفردة القرآنية 0 حيث لا يمكن معرفة معنى المفردة الا من خلال السياق وذلك لان اللفظ لا يكتسب دلالته وقيمته الا من السياق الذي يرد فيه
وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على اعجاز القران الكريم ” فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ فِي هَذَا الْقُرْآنِ أَسْرَارٌ خَفِيَّةٌ، وَحِكَمٌ مَطْوِيَّةٌ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ مِنْ عَبِيدِهِ”
ومن قبيل الالفاظ التي وردت في القران الكريم لفظة “ضرب ” دلالاتها واستعمالاتها في السياق القرآني اذ لها معان متعدد بحسب السياق الذي وردت فيه ،ولها معان مختلفة ومتنوعة وبالرجوع الى كتب التفسير يظهر لنا غنى هذه الكلمة وما حوته من معان
اولا : الضَّرْبُ معناه الإِسراع في السّير ومن ذلك قوله تعالى : ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) سورة البقرة الآية (273) ( لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) يُقَالُ ضَرَبْتُ فِي الْأَرْضِ ضَرْبًا إِذَا سِرْتَ فِيهَا
ثانيا : الضَّرْب: الإِلزام: ومنه قوله تعالى : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) سورة البقرة الآية (61) ، ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم، فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه. أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب، كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه
ثالثا : الضَّرب يعني الضرب بالسّيف او باليد: ومنه قوله تعالى ( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) الانفال الآية (12) ، ( فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) أَيْ: فَاضْرِبُوا الْهَامَ وَافْلِقُوا الرُّءُوسَ أَوِ اضْرِبُوا عَلَى الْأَعْنَاقِ، وَقَطِّعُوا الْأَيْدِيَ ذَاتَ الْبَنَانِ الَّتِي هِيَ أَدَاةُ التَّصَرُّفِ فِي الضَّرْبِ وَغَيْرِهِ ، ومنه الضرب باليد قال تعالى ( وَاضْرِبُوهُنَّ) سورة النساء الآية (34) فالسياق يرشد ان يكون الضرب باليد. وهو الضرب الغير مبرح بالسواك ، أَوْ بِقَصَبَةٍ صَغِيرَةٍ 0
رابعا : الضرب معناه الوصف كقوله تعالى : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً )سورة ابراهيم الآية (24) ، أي وَصَفَ ومنه ايضا قوله تعالى ( نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ) العنكبوت الآية (43)، أي نَصِفها.
خامسا : الضرب: البيان كقوله تعالى : {وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ}، وقوله تعالى : {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} أي بيّنَّا.
سادسا : الضرب بمعنى النوم كقوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} سورة الكهف الآية (11) أي أَنمناهم، وقيل: منعناهم السّمع؛ لأَنَّ النَّائم إِذا سمع انتبه. فالسياق يرشد ان الضرب المراد في الآية هو النوم أي ضربنا عليها حجابا من أن تسمع، يعنى: أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات، كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع ولا يستنبه
سابعا :الضرب بمعنى المثل كقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) سورة ابراهيم الآية (24) ورد اقتران الضرب بالأمثال القرآنية إن الكلمة الطيبة- كلمة الحق- كالشجرة الطيبة. ثابتة سامقة مثمرة.. ثابتة لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها رياح الباطل ولا تقوى عليها معاول الطغيان- وإن خيل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان- سامقة متعالية، تطل على الشر والظلم والطغيان من عل- وإن خيل إلى البعض أحياناً أن الشر يزحمها في الفضاء- مثمرة لا ينقطع ثمرها، لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آناً بعد آن.. وإن الكلمة الخبيثة- كلمة الباطل- كالشجرة الخبيثة
ثامنا : الضرب بمعنى الاعراض والترك كقوله تعالى (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) سورة الزخرف الآية (5) وهو سؤال انكاري من الله تعالى للمسرفين أفنعرض عنكم ونترككم على ما أنتم عليه من الكفر والاسراف دون أن نبين لكم الصواب ونرسل لكم الرسل أو نترككم دون حساب ولا عقاب على ما قدمتموه
فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِ هَذَا الْكِتَابِ سِرٌّ لَطِيفٌ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ.
فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ أَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ وَنَفَائِسُ لَطِيفَةٌ، تَعْجَزُ الْعُقُولُ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِكَمَالِهَا.
فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ سِرٌّ مَخْفِيٌّ
فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ حِكْمَةٌ خَفِيَّةٌ وَسِرٌّ عَجِيبٌ يُبْهِرُ الْعُقُولَ.
من خلال ما تقدم يظهر ان الفاظ القران الكريم الفاظ منتقاة ودقيقة فكل لفظ وضع في مكانه بحيث لا يمكن ان نستبدل لفظ بلفظ اخر مهما تقاربت الالفاظ وهذا من ابرز دلائل اعجاز القران الكريم قال ابن عطية “كلام الله لو انتزعت منه لفظ ثم ادير لسان العرب على لفة احسن منها لم تجد “
أ.د شاكر محمود مهدي هادي العزاوي
كلية العلوم الاسلامية /قسم العقيدة والفكر الاسلامي