مقال بعنوان: المقاصد التي ارادها الاسلام من بناء الاسرة
ينبثق نظام الأسرة من معين الفطرة وأصل الخلقة وقاعدة التكوين الأولى للأحياء جميعًا وللمخلوقات كافّة، قال جل شأنه: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(الذاريات49), وقال سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} (يس36).
إن النظام الإسلامي يجعل الأسرة هي العمود الفقري الذي يقوم عليه المجتمع الإسلامي، وقد أحاطها الإسلام برعايةٍ عظيمةٍ في كل مراحل تكوينها، وقد استغرق تنظيمها وحمايتها وتطهيرها من فوضى الجاهلية جهدًا كبيرًا، وأحاطها كذلك بكلِّ المقومات اللازمة لإقامة هذه القاعدة الأساسية الكبرى للمجتمع المسلم.
ونظرًا لأهمية هذه القاعدة في تكوين النظام الاجتماعي ربطها الإسلام بجاذبية الفطرة بين الجنسين؛ حيث أودع في كل طرف رغبة ملحة للطرف الآخر لتحقيق المودة والسكينة التي يبحث عنها كل منهما لدى الآخر، وما ذاك إلّا لتتجه إلى إقامة الأسرة القوية, وتكوين البيت الصالح الذي يتكون من مجموعهما المجتمع الصالح، قال جل شأنه: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}(الروم 21), وقال عز من قائل: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} (النحل 80).
إن الأسرة هي الوضع الفطري الذي ارتضاه الله تعالى لحياة الناس منذ فجر الخليقة وفضله لهم، واتخذ من الأنبياء والرسل مثلًا، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (الرعد38).
هذه المعاني كلها تجعل الرجل يندفع للارتباط بأنثاه، مضحيًّا من أجلها بماله، ومغيرًا طريقه حياته, مستبدلًا بروابطه السابقة روابط أخرى.. وهي التي تجعل المرأة تقبل الانفصال عن أهلها ذوي الغيرة عليها، وتترك أبويها وإخوتها وسائر أهلها لترتبط بالزواج برجل غريب عنها, تقاسمه السرّاء والضرّاء، وتسكن إليه ويسكن إليها، ويكون بينهما من المودة والمرحمة أقوى من كل ما يكون بين ذوي القربى، وما ذلك إلّا لثقتها بأن صلتها به ستكون أقوى من أيِّ صلة، وعيشتها معه أهنأ من كل عيشة، وهذا ميثاق فطري من أغلظ المواثيق وأشدها إحكامًا.
ومن أهم المقاصد التي أرادها الإسلام من تكوين الأسرة:
1- بقاء النوع الإنساني:
الإنسان مجبول على حب البقاء، وإذا كان الإنسان لا سبيل إلى بقائه بذاته، فإن سبيله إلى البقاء إنما هو النسل المعروف نسبته إليه، حيث يراه امتداد في بقائه واستمرارًا لذكراه وخلودًا لحياته، وقد حثَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على طلب النسل وحبَّبَ إليه، فقال: “تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم”.
2- حسن التربية للأجيال القادمة:
إن الأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الناشئة ورعايتها، وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها، وفي ظله تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل, وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة، وعلى هديه ونوره تتفتح للحياة, وتفسر الحياة, وتتعامل مع الحياة.
3- عمارة الأرض:
إن الأسرة هي العماد الذي يقوم عليه كل ما ينشأ في هذه الحياة من مظاهر التحضر والعمران, لذلك شاءت إرادته تعالى حينما أزف رحيل آدم -عليه السلام- من الجنة ليهبط إلى الأرض ليبدأ الحياة والعمران -كما سبقت بذلك الإرادة- أن خلق له من نفسه من تشاركه في هذه الحياة وفي إقامة هذا العمران.
4- حفظ الأنساب:
قال جل شأنه: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} 1 فلا بُدَّ للإنسان السويِّ أن يكون منتسبًا إلى أسرة مكونة من أب معروف وجَدٍّ معروف وأم وجدة كذلك، ومن عوامل الاستقرار النفسي لدى الإنسان كذلك أن يشعر بأن له أبناء وأحفادًا ينتمون إليه ويحملون اسمه ولقبه.
وبناءً على ذلك تتقرر الحقوق والواجبات داخل الأسرة من تربية وحضانة ونفقة وإرث, وغير ذلك من الأحكام الشرعية التي لولا البناء السليم للأسرة لما أمكن ترتيب هذه الحقوق أو توفيتها.
فهذه بعض المقاصد التي ارادها الاسلام الحنيف من بناء الاسرة وتكوينها.