مقال بعنوان: تناوبُ حروفِ الجرِّ بعضُها مكانَ بعضٍ بينَ المانعينِ والمُجيزينَ حقيقةٌ أم وهمٌ
تناوبُ حروفِ الجرِّ بعضُها مكانَ بعضٍ بينَ المانعينِ والمُجيزينَ حقيقةٌ أم وهمٌ
لقد شاع في كتب النحويين المتأخرين فيما عُرِفَ بمسائل الخلاف النحوي بين المذهبين المشهورين المذهب البصري والمذهب الكوفي, وقد صنَّف فيه جماعة من النحويين المتقدمين كأبي العباس ثعلب وأبي جعفر النحاس, وضاعت وفقدت حالها كحال كثير من الكتب النحوية, ولكن لم تصلنا كتبهم وبقيت بعضا منها متناثرة هنا وهناك في كتب النحويين, وكذلك صنف جماعة من المتأخرين, فعدوا مسألة تناوب حروف الجر بعضها مكان بعض من هذه المسائل الخلافية بين النحويين البصريين وبين النحويين الكوفيين, فالبصريون قد منعوا تناوبها, وقالوا إِنَّ حرف الجر لا ينوب عن حرف جر آخر, وإن اُستِعْمَلَ فهو باق على أصل معناه في السياق, فلا يجوز أن تكون على بمعنى حرف الجر في كقولنا:" زيدٌ في السطح" بمعنى على السطح, وإذا تعثر حملها على الأصل, فيمكن حملها على التضمين, ويعنون بالتضمين أن يضمن الفعل معنى فعل يتعدى بتعديته أو يلزم بلزومه, وقد يحملونه على التناوب شذوذا.
وأما النحويون الكوفيون فأجازوا تناوب حروف الجر بعضها مكان بعض, فاحتجوا بشواهد كثيرة من القرآن الكريم وكلام العرب الفصحاء, ووصف بعض النحويين المحققين أنَّ مذهبهم أقلُّ تكلفا, وبالرجوع الى كتب الخلاف النحوي التي صورت لنا هذه المسألة على أنها من مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والنحويين الكوفيين ولاسيما كتاب الانصاف في مسائل الخلاف لأبي البركات ابن الأنباري (577هـ) الذي وَهِمَ فعدَّها من المسائل الخلافية وأوهم مَنْ بعدهم من المصنفين الذين صنفوا في هذا الجانب كأبي البقاء العكبري (616هـ) في كتابه التبيين عن مذاهب النحويين, وغيره كثيرون ممن وقعوا في هذا الوهم, ولكننا قد وقفنا على حقيقة هذا الخلاف فتبين لنا أن هذا الخلاف لا حقيقة له وهو وهم من الأوهام التي وقع فيها أبو البركات ابن الأنباري, وقد وقفت على طائفة من أقوال البصريين وجدتهم قد أجازوا تناوب الجر بعضها مكان بعض, وهؤلاء القائلون بالجواز هم رأس من رؤوس النحويين البصريين كيونس البصري شيخ سيبويه وأبي الحسن الأخفش الأوسط تلميذ سيبويه,وكذلك أجاز ذلك الأصمعي في بعضها, وكذلك أجازه أبو العباس المبرد وأبو إسحاق الزجاج, وأجاز ابن جني تناوبها إذا تقاربت معانيها مثل استعمال حرفي الجر في والباء بمعنى الظرفية, وحمل سائرها إذا لم تتقارب معانيها على التضمين, وعلى الرغم من أنه أسلوب غير قياسي على رأي جمهور النحويين, وبعد هذا كله نستطيع القول إن هذه المسألة لا يمكن عدَّها من مسائل الخلاف النحوي بين النحويين البصريين وبين النحويين الكوفيين, وأنَّ هذا الخلاف لا حقيقة له إلا فيما اعتقده أبو البركات ابن الأنباري وغيره كثير ممن لم يقف على حقيقته, فعليه لا بد لنا من مراجعة الموروث اللغوي، ولاسيما النحوي فقد كانت أحكام النحويين فيه مضطربة ولا تقوم على أساس متين, ولا يمت الى الواقع اللغوي الذي يقوم على استقراء الموروث استقراءا تاما غير منقوص.
أ.م.د.حسين كاظم حسين
قسم الشريعة