مقال بعنوان : (النجاح المخبوء)
(النجاح المخبوء)
نعتقد دائما أن النجاح يهبط علينا فجأة أو يقرع بابنا ليستأذننا في الدخول ، النجاح مطلبٌ مُلِحٌّ تتشوَّف إليه الأرواح الوثَّابة، وغايةٌ تتبارى الأنفس في طلبها، بل النفس الطموح تكاد ألا تَمَلَّ من اللَّهث وراءه ، والتضحية من أجله في سلسلة من التحديات تتجاوزها لتظفر به وتنعم ، وهو مقصد الإسلام ؛ فما جاء الإسلام إلا لسعادة الناس وإنجاحهم في أُولاهم وأُخراهم، ولذا علَّم النبي (صلى الله عليه وسلم) سلمان الخير دعاءً يقوله ويواظب عليه ، فأمره أن يدعو بهذه الدعوات: «اللهم إني أسألك صحةً في إيمان ، وإيماناً في حسن خلق ، ونجاحاً يتبعه فلاح ».
ومن هنا فالشعور الدائم المعطِّل لسعادتنا بـ”عدمِ الرِّضا“، والإحساس المُتجدِّد المعيق لتقدمنا بـ”الفشل“؛ ليس حقيقة أصيلة لصيقة بحياتنا في الوجود ، بل ما هو إلا وهم ناتج عن استعارتنا نظارة غيرنا وحكمنا على أنفسنا وحياتنا من خلالها.
في أحايين كثيرة نقيس النجاح والفشل في حياتنا الشخصية بمقياس غيرنا، ثم لا نخرج بعد هذا المقياس الخاطئ والمقارنة المضطربة إلا بالشقاء والبؤس. نقرأ في الكُتبِ عن نجاحات الآخرين وإنجازاتهم ، فنظن أننا لن نكون ناجحين إلا إذا حققنا ما حققوا ، ووصلنا إلى ما وصلوا إليه!.
وهذا هو السبب الأكبر الذي يجعلنا نقزِّم منجزاتنا، بل نسحقها تمامًا فلا نراها شيئاً يستحق الذِّكر. فلا شيء أقتلُ للنفسِ من شعورِها بضَعَتِها وصِغَرِ شأنِها وقلَّةِ قيمتهِا، وأنها لا يمكنُ أن يصدر عنها عملٌ عظيمٌ، ولا يُنتظرُ منها خيرٌ كبيرٌ. هذا الشعورُ بالضَّعةِ يُفقِدُ الإنسان الثقة بنفسِه والإيمان بقوتِها، فإذا أقدم على عملٍ ارتاب في مقدرتِه وفي إمكانِ نجاحِه، وعالجه بفتورٍ ففشِلَ فيهِ، ومن هنا تتضخم المعاناة بداخلنا، فنُصبح ذواتاً حزينة خاملة الجهد عليلة الطموح.
للنجاح أبواب واسعة وأشكال مُتعددة ، وعلاماتٌ تلوحُ، وإشاراتٌ تظهرُ، وهي شهودٌ على رقيِّ صاحبها، ونجاحِ حامِلها، وفلاحِ منِ اتَّصف بها. ولا يمكن بحال أن تُحصر في مؤهلٍ أكاديمي، أو منصبٍ وزاري ، أو ثراءٍ مادي.
من النجاحات المخبوءة: حسن علاقة الفرد بربِّه الموجبة للطمأنينة النفسية والسلام الداخلي.
فاعتقاد المرء بأنه مسلم موحد ، يؤمنُ باللهِ ورسولهِ واليومِ الآخرِ، ويؤدِّي الفرائض ولو على تقصيرٍ، فإنَّ هذا في حدِّ ذاته نجاح لا يُقدَّر بثمن ولا يُباعُ بمالٍ ، ولا يدورُ في الحسبانِ ، وليس له شبيهٌ في الأعيانِ:﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ﴾ [السجدة: 18].. بل أعظم نجاح أن يصل الإنسان إلى مرحلةٍ من الإيمان تجعله لا ييأس مما أصابه ولا يحزن على ما فاته ، مُنَّعَمٌ بيقينٍ سرمدي بأن الضُّر ابتلاء من الله لا محالة مرفوع ، والنفع من رِزقه آت غير ممنوع ، كما قال الشاعرُ:
وما نبالي إذا أرواحٌنا سلِمتْ …
بما فقدناهُ مِنْ مالٍ ومِنْ نَشَبِ
فالمالُ مكتسبٌ والعِزُّ مُرْتجعٌ … إذا النفوسُ وقاها اللهُ مِنْ عَطَبِ
ومن النجاحات المخبوءة: رابطة أسرية متينة تخلق الأمان والأُنس ، وتسد حاجتك العاطفية ، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾[الروم: 21] وفي هذا التعبير الدقيق ما فيه من إشارات إلى طبيعة تلك الروابط العميقة الكبيرة التي يجد عندها الفرد الراحة والطمأنينة والاستقرار ، ويجد في اجتماعهما السكن والاكتفاء، فمن كان عنده زوجةٌ وبيتٌ وصحةٌ وكفايةُ مالٍ فقد حاز صَفْوَ العيشِ وحقق النجاح في حياته ، فليحمدِ الله وليقنعْ، فما فوق ذلك إلا الهمُّ .
ومن النجاحات المخبوءة أيضا: أنْ يكون لهُ عمرٌ ثانٍ ، بذِكر حسن بين الناس يدفن الحَنَق ويُظهر سلامة الصدر، وعجباً لمنْ وجد الذكْر الحسنَ رخيصاً ولمْ يشترِهِ بمالِه وجاهِه وسعيِه وعملِه ، وقدْ طلب إبراهيم (عليهِ السلام) منْ ربِّه ذلك بقوله ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الشعراء: 84] دعوة تدفعه إليها الرغبة في الإمتداد ، والثَّناءُ الحسنُ ، والذكر الجميل، وقد استجاب الله له ، وحقق دعوته ، وعجبْتُ لأُناسٍ خلَّدوا ثناءً حسناً في العالمِ بحُسْنِ صنيعهِم وبكرمهِم وبذْلِهم ، حتى إنَّ عُمَرَ سأل أبناء هرِم بنِ سنانٍ: ماذا أعطاكمْ زهيرٌ، وماذا أعطيتُموهُ؟ قالوا: مَدَحَنا، وأعطيناهُ مالاً، قال عمرُ: ذهب واللهِ ما أعطيتموهُ ، وبقي ما أعطاكمْ ، يعني: الثناءُ والمديحُ بقي لهمْ أبد الدّهرِ.
المختصر: تأمل إنجازاتك الخاصة وابتهج بها ، ولا تراقب إنجازات غيرك فتظن أنها الشكل الوحيد للنجاح ، فقد ينجح أحدهم مادياً ويفشل اجتماعياً ، وآخر ناجح أكاديميا لا يستطيع بناء أسرة .
أ.د عوض جدوع احمد
قسم العقيدة والفكر الاسلامي
كلية العلوم الاسلامية