تطويع اللغة عند علي بن ابي طالب (عليه السلام)
بقلم أ.د.حيدر أحمد الزبيدي
كلية العلوم الإسلامية
إن اللغة العربية تنفرد عن باقي لغات العالم بمرونتها واشتقاقيتها مما يجعلها تشكّل مداليل وصوراً جمالية لها وقعها التأثيري عند سامعها ، ولا يتحقق ذلك إلّا عند بليغ مقتدر خبير بأسرار اللغة وطرائق بنيتها التعبيرية ، ومن تتكور اللغة بمعانيها المونقة بين شفتيه محدثةً دهشةً عند المتلقي غير أمير البلاغة والفصاحة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ؟ حيث روي في التراث أن جماعة من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جلسوا يتذاكرون الحروف الهجائية وأجمعوا على أن حرف الألف هو أكثر الحروف دخولا في الكلام ، وهو حرف يدور عليه رحى الكلمات ، ويستعمل أكثر من سائر الحروف ولا يمكن الاستغناء عنه، فقام الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكان حاضرا جمعهم وارتجل خطبة خالية من الألف اذهلت عقول السامعين والحاضرين، وهذه من منفردات علي (عليه السلام) ومختصاته ، فلم يذكر التاريخ له شبيهاً ونظيراً، ولا مثيل فيما سبقه ، ولا لحقه أحد أن يأتي ارتجالاً من دون سابقة تأمل ولا تروٍ ، وسميت هذه الخطبة المشهورة بـ “الخطبة المونقة” ؛ لما تحويه من قوة البلاغة والفصاحة وغزارة العلم الذي جمعه الإمام علي (عليه السلام ) وتعلمه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيما يأتي نصها:
((حَمِدتُ مَن عَظُمَت مِنَّتُهُ، وَسَبَغَت نِعمَتُهُ، وَسَبَقَتْ غَضَبَهُ رَحمَتُهُ، وَتَمَّت کَلِمَتُهُ، وَنَفَذَت مَشیَّتُهُ، وَبَلَغَت قَضیَّتُهُ، وَحَمِدتُ حَمدَ مُقِرٍّ بِرُبوبیَّتِهِ، مُتَخَضِّعٍ لِعُبودیَّتِهِ، مُتَنَصِّلٍ مِن خَطیئتِهِ، مُعتَرِفٍ بِتَوحیَدِهِ، مُستَعیذٍ مِن وَعیدِهِ، مُؤَمِّلٍ مِنه مَغفِرَةً تُنجیه ِ، یَومَ یُشغَلُ عَن فَصیلَتِهِ وَبَنیهِ، وَنَستَعینُهُ، وَنَستَرشِدُهُ، وَنَسْتَهدِيهُ ، وَنُؤمِنُ بِهِ، وَنَتَوَکَّلُ عَلَیهِ، وَشَهِدتُ لَهُ شُهودَ مُخلِصٍ موقِنٍ، وَفَرَّدَتُهُ تَفریدَ مُؤمِنٍ مُتيقْنٍ، وَوَحَّدَتُهُ تَوحیدَ عَبدٍ مُذعِنٍ لَیسَ لَهُ شَریكٌ فی مُلکِهِ، وَلَم یَکُن لَهُ وَلیٌّ فی صُنعِهِ، جَلَّ عَن مُشیرٍ وَوَزیرٍ، وَعَن عَونِ مُعينٍ ونَصيرٍ وَنَظیرٍ، عَلِمَ فَسَتَرَ، وَبَطَنَ فَخَبَرَ، وَمَلَكَ فَقَهَرَ، وَعُصیَ فَغَفَرَ، وَعُبِدَ فَشَکَرَ، وَحَکَمَ فَعَدَلَ، لَم یَزَل وَلَن یَزولَ، وَ لیسَ کَمِثلِهِ شَیءٌ، وَهُوَ قَبلَ کُلِّ شَیءٍ وَبَعدَ کُلِّ شَیءٍ، رَبٌّ مُتَفَرِّدٌ بِعِزَّتِهِ، مَتَمَلِّكٌ بِقُوَّتِهِ، مُتَقَدِّسٌ بِعُلُوِّهِ، مُتَکَبِّرٌ بِسُمُوِّهِ لَیسَ یُدرِکُهُ بَصَرٌ، وَلَم یُحِط بِهِ نَظَرٌ، قَویٌ، مَنیعٌ، بَصیرٌ، سَمیعٌ، علیٌّ، حَکیمٌ، رَؤوفٌ، رَحیمٌ، عَزیزٌ، عَلیمٌ، عَجَزَ فی وَصفِهِ مَن یَصِفُهُ، وَضَلَّ فی نَعتِهِ مَن یَعرِفُهُ، قَرُبَ فَبَعُدَ، وَبَعُدَ فَقَرُبَ، یُجیبُ دَعوَةَ مَن یَدعوهُ، وَیَرزُقُ عَبدَهُ وَیَحبوهُ، ذو لُطفٍ خَفیٍّ، وَبَطشٍ قَویٍّ، وَرَحمَةٍ موسِعَةٍ، وَعُقوبَةٍ موجِعَةٍ، رَحمَتُهُ جَنَّةٌ عَریضَةٌ مونِقَةٌ، وَعُقوبَتُهُ جَحيمٌ مؤصَدَةٌ موبِقَةٌ، وَشَهِدتُ بِبَعثِ مُحَمَّدٍ عَبدِهِ وَرَسولِهِ صَفیِّهِ وَحَبیبِهِ وَخَلیلِهِ، بَعَثَهُ فی خَیرِ عَصرٍ، وَحینَ فَترَةٍ، وَکُفرٍ، رَحمَةً لِعَبیدِهِ، وَمِنَّةً لِمَزیدِهِ، خَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ، وَقَوّی بِهِ حُجَّتَهُ، فَوَعَظَ، وَنَصَحَ، وَبَلَّغَ، وَکَدَحَ، رَؤوفٌ بِکُلِّ مُؤمِنٍ، رَحیمٌ، ولیٌّ، سَخیٌّ، ذَکیٌّ، رَضیٌّ، عَلَیهِ رَحمَةٌ، وَتَسلیمٌ، وَ بَرَکَةٌ، وَتَعظیمٌ، وَتَکریمٌ مِن رَبٍّ غَفورٍ رَحیمٍ، قَریبٍ مُجیبٍ.
وَصیَّتُکُم مَعشَرَ مَن حَضَرَنی، بِتَقوی رَبِّکُم، وَذَکَّرتُکُم بِسُنَّةِ نَبیِّکُم، فَعَلَیکُم بِرَهبَةٍ تُسَکِّنُ قُلوبَکُم، وَخَشیَةٍ تَذری دُموعَکُم، وَتَقیَّةٍ تُنجیکُم یَومَ یُذهِلُکُم، وَتُبلیکُم یَومَ یَفوزُ فیهِ مَن ثَقُلَ وَزنَ حَسَنَتِهِ، وَخَفَّ وَزنَ سَیِّئَتِهِ، وَلتَکُن مَسأَلَتُکُم مَسأَلَةَ ذُلٍّ، وَخُضوعٍ، وَشُکرٍ، وَخُشوعٍ، وَتَوبَةٍ، وَنَزوعٍ، وَنَدَمٍ وَرُجوعٍ، وَلیَغتَنِم کُلُّ مُغتَنَمٍ مِنکُم، صِحَّتَهُ قَبلَ سُقمِهِ، وَشَبِيبَهُ قَبلَ هِرَمِهِ، وَسِعَتَهُ قَبلَ عَدَمِهِ، وَخَلوَتَهُ قَبلَ شُغلِهِ، وَحَضَرَهُ قَبلَ سَفَرِهِ، قَبلَ هُوَ یَکبُرُ، وَیَهرَمُ، وَیَمرَضُ، وَیَسقَمُ، وَیُمِلُّهُ طَبیبُهُ، وَیُعرِضُ عَنهُ حَبیِبُهُ، وَیَتَغَیَّرَ عَقلُهُ، وَیَنقطِعُ عُمرُهُ، ثُمَّ قیلَ هُوَ مَوَعوك، وَجِسمُهُ مَنهوكٌ، قَد جَدَّ فی نَزعٍ شَدیدٍ، وَحَضَرَهُ کُلُّ قریبٍ وَبَعیدٍ، فَشَخَصَ بَصَرَهُ، وَطَمَحَ بنَظَرَهُ، وَرَشَحَ جَبینَهُ، وَسَکَنَ حَنینُهُ، وَجُذِبَت نَفسُهُ، وَنُکِبَت عِرسُهُ، وَحُفِرَ رَمسُهُ، وَیُتِمَّ مِنهُ وُلدُهُ، وَتَفَرَقَ عَنهُ عَدَدُهُ، وقُسِّمَ جَمعُهُ، وَذَهَبَ بَصَرُهُ وَسَمعُهُ، وَمُدِّدَ، وَجُرِّدَ، وَعُريَ ، وَغُسِّلَ ، وَنُشِفَ، وَسُجِیَ، وَبُسِطَ لَهُ، وَنُشِرَ عَلَیهِ کَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنهُ ذَقَنُهُ، وَقُمِّصَ، وَعُمِّمَ، وَلُفَّ، وَوُدِعَّ، وَسُلِّمَ، وَحُمَلِ فَوقَ سَریرٍ، وَصُلِّیَ عَلَیهِ بِتَکبیرٍ، وَنُقِلَ مِن دورٍ مُزَخرَفَةٍ، وَقُصورٍ مُشَیَّدَةٍ، وَحَجُرٍ مُنَضَّدَةٍ، وَجُعِلَ فی ضَریحٍ مَلحودٍ، وضَیِّقٍ مَرصوصٍ ، بِلبنٍ مَنضودٍ، مُسَقَّفٍ بِجُلمودٍ، وَهیلَ عَلیهِ حَفَرُهُ، وَحُثِیَ عَلیهِ مَدَرُهُ، فَتَحَقَّقَ حَذَرُهُ، وَنُسِیَ خَبَرُهُ وَرَجَعَ عَنهُ وَلیُّهُ، وَنَدیمُهُ، وَنَسیبُهُ، وَحَمیمُهُ، وَتَبَدَّلَ بِهِ قرینُهُ، وَحَبیبُهُ، وَصَفیُّهُ، فَهُوَ حَشوُ قَبرٍ، وَرَهینُ قَفرٍ، یَسعی فی جِسمِهِ دودُ قَبرِهِ وَیَسیلُ صَدیدُهُ مِن مِنخَرِهِ، یُسحَقُ ثوبُهُ وَلَحمُهُ، وَیُنشَفُ دَمُهُ، وَیُدَقُّ عَظمُهُ، حَتّی یَومَ حَشرِهِ، فَیُنشَرُ مِن قَبرِهِ، وَیُنفَخُ فِی الصّورِ، وَیُدعی لِحَشرٍ وَنُشورٍ، فَثَمَّ بُعثِرَت قُبورٌ، وَحُصِّلَت صُدورٌ، وَجیء بِکُلِّ نَبیٍّ، وَصِدّیقٍ، وَشَهیدٍ ، وَتَوَلّی لِفَصلِ حُکمِهِ رَبٌّ قدیرٌ، بِعَبدِهِ خَبیرٌ وَبَصیرٌ، فَکَم مِن زَفرَةٍ تُضنیهِ، وَحَسرَةٍ تُنضیهِ، فی مَوقِفٍ مَهولٍ عَظیمٍ، وَمَشهَدٍ جَلیلٍ جَسیمٍ، بَینَ یَدَی مَلِکٍ کَریمٍ، بِکُلِّ صَغیرَةٍ وَکَبیرَةٍ عَلیمٍ، حینَئِذٍ یُلجِمُهُ عَرَقُهُ، وَیَحفِزُهُ قَلَقُهُ، عَبرَتُهُ غَیرُ مَرحومَةٍ، وَصَرخَتُهُ غَیرُ مَسموعَةٍ، وَحُجَّتُهُ غَیرُ مَقبولَةٍ، وَتَؤلُ صَحیفَتُهُ، وَتُبَیَّنُ جَریرَتُهُ، وَنَطَقَ کُلُّ عُضوٍ مِنهُ بِسوءِ عَمَلِهِ وَشَهِدَ عَینُهُ بِنَظَرِهِ وَیَدُهُ بِبَطشِهِ وَرِجلُهُ بِخَطوِهِ وَجِلدُهُ بِمَسِّهِ وَفَرجُهُ بِلَمسِهِ وَیُهَدِّدَهُ مُنکَرٌ وَنَکیرٌ وَکَشَفَ عَنهُ بَصیرٌ فَسُلسِلَ جیدُهُ وَغُلَّت یَدُهُ وَسیقَ یُسحَبُ وَحدَهُ فَوَرَدَ جَهَنَّمَ بِکَربٍ شَدیدٍ وَظَلَّ یُعَذَّبُ فی جَحیمٍ وَیُسقی شَربَةٌ مِن حَمیمٍ تَشوی وَجهَهُ وَتَسلخُ جَلدَهُ یَضرِبُهُ زَبینَتُهُ بِمَقمَعٍ مِن حدیدٍ یَعودُ جِلدُهُ بَعدَ نَضجِهِ بِجلدٍ جدیدٍ یَستَغیثُ فَیُعرِضُ عَنهُ خَزَنَةُ جَهَنَّمُ وَیَستَصرخُ فَیَلبَثُ حُقبَةً بِنَدَمٍ.
نَعوذُ بِرَبٍّ قَدیرٍ مِن شَرِّ کُلِّ مَصیرٍ وَنَسأَلُهُ عَفوَ مَن رَضیَ عَنهُ وَمَغفِرَةَ مَن قَبِلَ مِنهُ فَهُوَ وَلیُّ مَسأَلَتی وَمُنْجِح طَلِبَتی فَمَن زُحزِحَ عَن تَعذیبِ رَبِّهِ سَکَنَ فی جَنَّتِهِ بِقُربِهِ وَخُلِّدَ فی قُصورِ مُشَیَّدةٍ وَمُکِّنَ مِن حورٍ عینٍ وَحَفَدَةٍ وَطیفَ عَلَیهِ بِکُؤوسٍ وَسَکَنَ حَظیرَةَ فِردَوسٍ، وَتَقَلَّبَ فی نَعیمٍ، وَسُقِیَ مِن تَسنیمٍ وَشَرِبَ مِن عَینٍ سَلسَبیلٍ، مَمزوجَةٍ بِزَنجَبیلٍ مَختومَةً بِمِسكٍ عَبیرٍ مُستَدیمٍ لِلحُبورٍ مُستَشعِرٍ لِلسّرورِ یَشرَبُ مِن خُمورٍ فی رَوضٍ مُشرِقٍ مُغدِقٍ لَیسَ یَصدَعُ مَن شَرِبَهُ وَلَیسَ یَنزفُ.
هذِهِ مَنزِلَةُ مَن خَشِیَ رَبَّهُ وَحَذَّر نَفسَهُ وَتِلكَ عُقوبَةُ مَن عَصی مُنشِئَهُ وَسَوَّلَت لَهُ نَفسُهُ مَعصیَةَ ، ذلِكَ قَولٌ فَصلٌ وَحُکمٌ عَدلٌ خَیرُ قَصَصٍ قَصَّ وَوَعظٍ بِهِ نَصَّ تَنزیلٌ مِن حَکیمٍ حَمیدٍ نَزَلَ بِهِ روحُ قُدُسٍ مُبینٍ عَلی نَبیٍّ مُهتَدٍ مَکینٍ صَلَّت عَلَیهِ رُسُلٌ سَفَرَةٌ مُکَرَّمونَ بَرَرَةٌ عُذتُ بِرَبٍ رَحیمٍ مِن شَرِّ کُلِّ رَجیمٍ فَلیَتَضَرَّع مُتَضَرِّعُکُم ، وَلیَبتَهِل مُبتَهِلُکُم ، وليستَغفِر کُلُ مَربوبِ لي ولكم))