مقال بعنوان: الإيمان وفائدته في الوقاية من الجرائم
إن الجريمة قديمة قدم الإنسان ، بل سابقة عليه ، إذا أخذنا بالاعتبار ما ذهبت إليه الملائكة من أن آدم u سيفسد في الأرض ويسفك الدماء : ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾[البقرة: 30] ، لأن استفهامهم لا يستند إلى علمهم بالغيب ولا يقوم من فراغ بقدر ما هو بيان لواقع حاصل ، وقياس لمماثل صدقته وقائع الأيام ، فقد رافقت الجريمة الأنسان منذ خلقه الله تعالى ولازمته على مر العصور ، بل زادت كماً ونوعاً بقدر توغل الإنسان في المدنية والحضارة . ولن تنفك عنه ما بقي على الحياة ولن يخلو منها مجتمع من المجتمعات .
اذا اخذنا بالمنظور الإسلامي العام للجريمة واعتبار كل مخالفة لأمر الله تعالى فعلاً أو تركاً جريمة يستحق عليها العقاب الدنيوي أو الاخروي -كما عرفها الفقهاء – ” إتيان فعل محرم معاقب على فعله، أو ترك فعل محرم الترك معاقب على تركه “.
ثم إن الجريمة بهذا المعنى لا تختلف من الناحية الشكلية عما هي عليه في القوانين الوضعية التي تعرف الجريمة بأنها: “الفعل الذي يعاقب عليه القانون” وقطعاً فإن القانون لا يعاقب إلا على مخالفة ما أمر به أو نهى عنه ، إلا إن هناك في الحقيقة خلافاً واسعاً بين المنظور الشرعي والقانوني للجريمة من الناحية الموضوعية.
فالشرع لا يكتفي بالظاهر بل يتناول الباطن وما تضمره النيات وتحاسب عليه، فيما يعني القانون بالظاهر وهذا يعني أن الفعل إذا لم يكن واضحاً ظاهراً للناس موصوفاً بالتجريم لا يعد جريمة، وهذا يخالف ما عليه التشريع الإسلامي الذي وإن أرشد إلى أن الإنسان قد يقع في المعاصي وإن عليه الستر وعدم المجاهرة ،إلا إن سترها وعدم كشفها للآخرين لا يعفى فاعلها من الاثم والعقوبة الاخروية، وإن أفلت من العقوبة القانونية الدنيوية ، قال تعالى ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7، 8].
كما إن مباشرة الإنسان للشر ذات جوانب متعددة ، فقد يمس الشر الإنسان وذاته ، ومع هذا يعتبر تصرفه جريمة ؛ لأن آدم عليه السلام لم يهضم حقاً لاحد عدا ما فرط في جنب الله بحق نفسه من نسيان أمر الله تعالى ، قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: 115] ومع هذا اعتبر تصرفه جريمة استحق عليها العقوبة ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [الطلاق: 1].
وقد يتناول الشر حقوق الأفراد، كما يتناول حق المجتمع أو حق الله تعالى . وأيا كان نوعه فإنه يشكل جريمة وسلبية ينبغي القضاء عليها أو الحد منها لأن انتشارها في عموم المجتمع سيؤدي الى اضطراب المجتمع وضياع الأمن والاستقرار، فالقتل، والسرقة، والرشوة، والاغتصاب، وقطع الطريق ،وأكل أموال الناس بالباطل… ونحوها تشكل جرائم يستحق عليها الفرد العقوبة المقررة في الشريعة الإسلامية ، دنيوية كانت أو اخروية.
إذا أردنا أن نطرح جانباً، ما تقوم به الدولة ممثله بأجهزتها الرقابية المختلفة ممثله( بالشرطة، والأمن، والمكافحة) لنبحث في المنهج الاسلامي لنرى ما يمكن أن يقدمه في هذا المجال فإننا سنجد الاسلام يركز على إيجاد الإنسان الصالح الذي يمثل اللبنة الأساسية في المجتمع الاسلامي، بتربيته على العقيدة الإسلامية وأصولها القائمة على الايمان بالله ومعرفته،. كما أن الإيمان بالله ومراقبته وخشيته مما يحي في الانسان وازع من داخل نفسه ينبهه ويردعه كلما سولت له السعي وراء الشر، ذلك هو الضمير أو النفس اللوامة، قال تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾[القيامة: 1، 2]. و هي نفس المؤمن، تلومه على ما فات، تلومه على فعل الشر لم أقدم عليه وعلى الخير لم يكثر منه.
ومع هذا فإن الإسلام لم يكتفي بالتربية الوجدانية والاعتماد على وازع الضمير، وتركه دونما رادع أو زاجر، فقد تبغي بعض النفوس الضعيفة ولا ينفع معها منهاج الإسلام القويم في صلاح الإنسان فتتطلع إلى الإجرام والاعتداء على حقوق الاخرين فقد” يغش الناصح ويخون الامين” كما يقول الماوردي ، فكان لابد من وسيله للردع والزجر فكان تشريع العقوبات لذلك وهو يمثل العلاج لمن لم ينفعه الإرشاد والتقويم.
وهذا يعني إن الإسلام يجعل الإنسان في رقابة دائمة سواء قبل ارتكاب الجريمة أو بعدها. فله رقابتان رقابة وقائية ورقابه علاجية، ولكل وسائلها وأهدافها التي تمثل حصنا يمنع الإنسان من الوقوع في الجريمة.
ولعل الرقابة الوقائية أهم في المرحلة الأولى، فهي تمثل حجر الزاوية في التشريع الإسلامي لأنها تعني فكر الإنسان وسلوكه عبر مجموعة من الإجراءات تشكل نظاماً محكماً ودقيقاً مكافحة الانحراف أصلاً.
ومن هنا فالرقابة الوقائية تمثل خط الدفاع الأول ليس في الجانب السلبي بمنع الإنسان من مباشرة الجريمة فحسب، بل في جانبها الإيجابي بمنع غيره من مباشرة أسبابها وارتكابها. هذا يعني أن الإسلام يركز على الوسائل التي تقي الإنسان من الانحراف واقتراف الجريمة ويعتبرها الأساس في منهجه، وأن المعالجة استثناء لمن شذ عن ذلك
وإذا كانت هذه الرقابة الوقائية تقوم على وسائل متعددة فإن الإيمان يأتي في مقدمة هذه الوسائل. فهو الركيزة الأساسية والدعامة الثابتة والوسيلة الفاعلة في تهذيب سلوك الأفراد ومنعهم من ارتكاب الجرائم.
فالإيمان أساس الدين المنبه الداخلي الذي يلازم الانسان فكرا وسلوكا، ويوقظ ضميره ليراقبه ويحاسبه على أعماله ويحمله على التحلي بمكارم الأخلاق، واتباع السلوك السوي ، والتخلي عن السلوك المعوج الملتوي، وبالتالي احترام القانون، الذي أثبت الاختبار أن تنفيذه لا يمكن أن يعول على رهبة السلطة وممارساتها على المواطنين، وما تعانيه المجتمعات المعاصرة من مشكلات اجتماعية خطيرة، كالقتل والسرقة، وانتشار أعمال العنف والفجور والفوضى و تفكك الروابط التقليدية الانضباطية في البيت والمدرسة والمجتمع بسبب ضعف الايمان ، إلا دليل على أهمية الإيمان