مقال بعنوان: أسلوبي النصب على المدح أو على الذم في القرآن الكريم
هذا الأسلوب النحوي من الأساليب النحوية البلاغية, إذ حُذِف منه العامل وهو فعل لم يستحسنوا إظهار الفعل, فالعرب أمة يميلون الى اختصار الكلام ما استطاعوا إليه, وقد أشار النحويون القدامى إلى وقوعه في القرآن الكريم وفي كلام العرب, فالمَنْصُوبُ على التَّعْظيم والمَدْح: فالأوَّل نحو قولك: “الحَمدُ لله أَهْلَ الحَمْدِ” و”المُلكُ للَّهِ أهْلَ المُلْك” و”الحمدُ للَّهِ الحميدَ هُوَ”, وأمّا على المدح فنحو قوله تعالى:{ لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ}( من سورة النساء الآية /162), فقد ذهب النحويون الى تأويل قوله تعالى:( والمُقِيمينَ) أنه منصوب على المدح على تقدير أمدح المقيمين الصلاة, وهذا في ظاهره لا يجوز في كلام العرب, لأنه عطف على اسم مرفوع,فَلو كَانَ كلُّه رفعاً كانَ جَائِزاً في كلامهم, ويَصحُّ فيما يَنتصِب على التَّعظيم أيضاً النَّعْتُ لِمَا قَبْله، والقَطْعُ على الابتداء, ونظيرُ هذا النَّصب على المَدح قول الخِرْنقِ بن هَفَّان:
لا يَبْعَدَنْ قَومي الذينَ هُمُ … سُّمُّ العُداة وآفَةُ الجُزْرِ
النَّازِلين بكُل مُعْتَرك … والطيِّبُونَ مَعَاقَدَ الأُزْرِ
ورفع الطَّيبين لِرَفْع سُمُّ العُداةِ في البيت قبله، وقال سيبويه:( وزَعَم يُونس أنَّ من العَرَبِ مَنْ يَقول: النَّازِلُون بكلِّ مُعْتَركٍ، والطِّيبِينَ – أي أنه جعل الطيبين – هي المنصوبة على المدح ومثله قوله تعالى:{ولكن البر من آمن بالله وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ }) إلى قوله سبحانه: { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ}(الآية من سورة البقرة/177), فيرى الفرّاء في قوله تعالى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ…)(البقرة/115)، نصب الصابرين على المدح لأن:( ونصبت «الصَّابِرِينَ» لأنها من صفة «مَنْ» وإنما نصبت لأنها من صفة اسم واحد، فكأنه ذهب به إلى المدح والعرب تعترض من صفات الواحد إذا تطاولت بالمدح أو الذم، فيرفعون إذا كان الاسم رفعا، وينصبون بعض المدح، فكأنهم ينوون إخراج المنصوب بمدحٍ مجددٍ غير متبع لأول الكلام… وقال بعض الشعراء: إلى الملك القرم وابن الهمام … وليث الكتيبة فِي المزدحم
وذا الرأي حين تغم الأمور … بذات الصليل وذات اللّجم
فنصب (ليث الكتيبة) و(ذا الرأي) على المدح والاسم قبلهما مخفوض لأنه من صفة واحدٍ فلو كان الليث غير الملك لم يكن إلا تابعا كما تقول مررت بالرجل والمرأة، وأشباهه, وهذا ماعناه الفرّاء بقوله السابق فأنهم ينوون اِخراج المنصوب بمدحٍ مجدد غير مُتْبَع لأول الكلام والرفع فيهما يكون على الإتباع أي نعتاً لـ(قومي), وهذا ما قاله الخليل أيضاً للعلة التي ذكرها الفرّاء نفسها، إذ قال الخليل:(نصب النازلين والطيبين على المدح، ويروى بعضهم والطيبون… إذا طال كلام العرب بالرفع نصبوا ثم رجعوا الى الرفع), وقد وافقت رواية الفرّاء لهذا الشاهد رواية الخليل له ايضاً,وأما سيبويه فقد روى الشاهد بالرفع في قوله (النازلين والطيّبين) إلا أنه أشار الى رواية النصب فيهما معللاً ذلك على المدح والتعظيم,وقد روى ابنُ قتيبة الدينوري هذا الشاهد بالنصب في قوله (النازلين) والرفع في قوله (الطيبين)، أي على القطع في النازلين وعلى الاتباع في(الطيبين) أو على الإبتداء أي على إضمار مبتدأ قبلها والتقدير: (وهم الطيّبون)، واسْند روايته الى أبي عبيدة معمر بن المثنى(ت 210هـ)، وهذا ما يفسِّر لنا قول الخليل: إذا طال كلام العرب بالرفع نصبوا ثم رجعوا الى الرفع، وهذا ما ذهب اليه أبو بكر بن السراج أيضاً، إذ قال فيه: (فترفع على الإبتداء أو تنصب على المدح), وقد توسّع النحاة كثيراً في تخريج هذا الشاهد نحوياً، ولاسيما المتأخرين منهم إذ أفرطوا فيه كثيراً، وربما بلغوا ضعْف توسع النحاة القدماء، فقد ذكر له ابنُ هشام أربعة وجوه اعرابية تضمنت ما قاله النحاة جميعاً، وذلك بعد أن رواه برواية سيبويه أي بالرفع فيهما جميعاً، ثم قال:( ويجوز رفعُ النازلين والطيبين على الإتباع لقومي أو القطع بإضمارهم أمدح أو أذكر، ورفع الأول ونصب الثاني على ما ذكرنا، وعكسه على القطع فيها), ثم أرجع هذا الاختلاف في تقدير الجمل الى اختلاف أفانين الكلام واختلاف بلاغته، فقال: (فلما اختلفت الجمل كان الكلام أفانين. فكان أبلغ منه أذا ألزم شرحاً واحداً”,ولم يفسّر النحاة لنا فلسفة العرب في ذلك. وكيف يجمعون بين أكثر من اسلوب في سياق كلامي واحد قصداً منهم البلاغة والبيان؟!، فقد ذكر الرازي وهو يتحدث عن قوله تعالى:( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) (المسد/3) أنَّ من قرأ بنصب حمالة إنه نصب على الذم، فقال الرازي:(قال أبو علي الفارسي وإذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم, فالأحسن أنْ تخالف بإعرابها ولا تُجْعَل كلَّها جارية على موصوفها؛ لأنَّ هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل، لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهاً واحداً وجملة واحدة), وقد تساءَل الكوفيون والبصريون: لِمَ صار المدح والذم علتين لاختلاف الحركة؟ فأجاب الرازي ناقلاً كلام الفرّاء:( فقال الفرّاء: أصل المدح والذم من كلام السامع وذلك أن الرجل إذا أخبر عن غيره فقال له : قام زيد فربما أثنى السامع على زيد، وقال ذكرت والله الظريف، ذكرت العاقل أي هو والله الظريف هو العاقل، فأراد المتكلم أن يمدح بمثل ما مدحه به السامع، فجرى الإعراب على ذلك وقال الخليل: المدح والذم ينصبان على معنى أعني، وأنكر الفرّاء ذلك لوجهين: الأول أن أعني إنَّما يقع تفسيراً للاسم المجهول، والمدح يأتي بعد المعروف, الثاني أنه لو صح ما قاله الخليل لصح أن يقول:” قام زيد أخاك “على معنى أعني أخاك، وهذا مما لم تقله العرب أصلاً), ولكن هل كان ذلك حاضراً في ذهن المتكلم أو الشاعر عندما قال ذلك؟! وهل هذا إلا توجيه نحوي أو بلاغي لظاهرة لاحظوها في كلام العرب؟ نعم, إنَّ العرب أصحاب لغة وفن في كلامهم، وإذا أخذنا هذا بنظر الاعتبار -ولاسيما أنه صادر من عالمين كبيرين كان لهما باعُ طويل في وضع القواعد وتقعيدها- فإنّا نزيد اليه عاملاً آخر هو رغبة العرب في الجنوح نحو طلب الخفة في الكلام في أغلب الأحيان إذ إنَّ المنصوب سواءُ أكان بحركة أم بحرف أخف عندهم في النطق من المرفوع، فالضمة والواو أثقل من الضمة والياء، فهم بسبب ذلك الى النصب أميل منه الى الرفع، ولاسيما إذا تكرر ذلك المرفوع على السنتهم في وقت واحد كالنعت والتوكيد والعطف, وقد يَمُتُ ذلك الأسلوب بصلة ما إلى مرحلة موغلة في القدم من مراحل نشوء اللغة وهي مرحلة اللهجات القبلية، ثمَّ تطورت فيها العربيّة مع الزمن والحضارة؛ فأصبح هذا الاسلوب وتلك اللهجة تمثلان عند النحاة تفسيراً او توجيهاً إعرابياً آخر فشاع وأخذت محاكاته تنتشر لدى الشعراء وغيرهم وبخاصة عندما فسر تفسيراً نحوياً مقبولاً يضرب على وتر لبلاغة والبيان. بدليل أن رواية هذه الشواهد لم تستقرّ على رواية موحدة عند جميع النحاة ولاسيما القدماء فضلاً عن المحدثين، وقال في ذلك ابن السيّد البطليوسي:(حكم القطع لا يكون إلا في المعارف المشهورة الغنية عن الصفات لشهرتها، ولا يكون في النكرات؛ لأنَّ النكرة مفتقرة الى صفة تميزها وتوضحها، وقد يعرض في بعضها ما يحسن في صفاتها القطع ولذلك لا يكون إلا بأنْ توصف بصفات تصير ببعضها بمنزلة المعروف وإن لم تكن معروفة)، واستشهد بهذا الشاهد نفسه، فالشرط الذي اشترطه ابن السيد البطليوسي هو ثابت عند النحاة جميعهم وهو تعدد النعوت والصفات ثم بعد ذلك يأتي القطع في بعضها لإفادة معنى المدح أو الذم أو الترحم واشترط ابن هشام لذلك أنْ يكون المنعوت نكرة، وأن يكون القطع واقعاً في النعوت الأخرى عدا النعت الأول, وأجاز الدكتور فاضل السامرائي ذلك مطلقاً في النكرات, ولا شك هنا أَنَّ توجيه النصب على المدح والثناء أو الشتم والذم يقتضي لا محالة سياقا يكون واضحا من خلاله ما إذا كان المقام مقام مدح أم ذم، أو مجرد إخبار, ونستطرد هنا قليلا ونقول إِنَّهُ من الطبيعي أَنَّ التعظيم والشتم لا يكونان إلا لمن هو معروف عند المُتَكَلِّم، فإنْ لم يكن من يُمدَح أو يُعَظَّم أو يُشتم معروفا فلا يجوز النصب على التعظيم أو الذم ويقول:(تقول: أتاني زيدٌ الفاسقَ الخبيثَ)؛لم يرد أَنْ يكرره ولا يعرفك شيئا تُنكره، ولَكِنَّه شتمه بذلك, وبلغنا أَنَّ بعضهم قرأ هذا الحرف نصبا: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} لم يجعل الحمَّالة خبرا للمرأة، ولَكِنَّه كَأَنَّه قال: أذكرُ حمّالةَ الحطب، شتما لها،إِنَّمَا شتمهم بشيء قد استقر عند المخاطَبين» وعندما نقول: «مررت بعبد الله الصالحَ»، إذا أردنا النصب فَإِنَّ الأفضل والأحسن ــــ إذا عُرف عن عبد الله صفة الصلاح وتهيَّأت ظروف سِيَاقِيَّة مُعَيَّنَة ـــــ أَنْ نقول إِنَّ كلمة «الصالحَ» منصوبة على التعظيم, وكما يكون النصب على المدح؛ فقد يكون على الذم أو الشتم، ومن ذلك ما ذهب إليه كل من الخليل والسمين في قوله تعالى:{حَمَّالَةَ الحطب}، قال السمين: (وقرأ العامةُ {حَمَّالَةُ} بالرفع، وعاصمٌ بالنصبِ؛ فقيل: على الشَّتْم” ، وهو عين ما قال به الخليل المنصوب على الذَّم والشَّتم وما أشبههما: تقول: “أتاني زَيْدٌ الفَاسِقَ الخبيثَ” لم يرد إلاّ شَتْمَة بذلك، وَقَرَأَ عَاصِمُ قَولَهُ تَعَالى:{وَامْرَأَتُه حَمَّالَةَ الحَطَبِ} بنصب حمَّالة على الذم، والقراءات الأُخرى برَفْع حَمَّالة على الخَبر لامْرَأتِه).