مقال بعنوان: أدب الخلاف في ميزان مقاصد الشريعة الإسلامية
لايخفى على كل ذي بصيرة ما تعيشه أمة الإسلام اليوم من شتات وفرقة، واختلافات خلفت عداوات وشقاق بين المسلمين أنفسهم، إذ تجاذبتهم الأهواء، وتشعبت بهم البدع، وتفرقت بهم السبل، فلا عجب أن تراهم بين خصومة مذهبية، أو حزبية فكرية، وربما تبعية غربية أو شرقية.. والنتيجة يخبر عنها قول المولى عز وجل:(( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )) .
وإذا كان المسلمون اليوم يلتمسون الخروج من هذا المأزق فلا سبيل إلاّ بتوحيد الهدف والغاية مع حسن النية وسلامة القصد قال تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) ، يقول ابن القيم رحمه الله: ( ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه ، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف لأنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية )
لكن تبقى القضية الأهم كيف ندير الخلاف؟ وكيف نتربى على قبوله؟، والإقرار بأنه حق إنساني، بل حق وواجب إسلامي، ونتعلم كيف نختلف؛ لأن ذلك ليس أقل شأناً من أن نتعلم كيف نتفق، وكيف نصل إلى مرحلة الاعتراف (بالآخر)، وأن له كل الحق أن يكون له رأي كما أن لنا رأياً ، وأن أدب الخلاف يعد من أرقى الآداب الإنسانية وأعلى مراتب الأخلاق، وأن الانغلاق والتعصب الفكري مراهقة وطفولة بشرية، وأن هناك معرفة وهناك تكوين معرفة، فلا يجوز أن يتحول العلم إلى لجاج وبغي ومدعاة للتفرق، كما قال تعالى: (( وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ))
وتجدر الإشارة ههنا الى أن الاعتراف (بالآخر) وبرأيه كواقع لا يعني إطلاقاً إقراره على ما هو عليه، ولا إعطاءه شهادة بصواب ما هو عليه، حسبه أن ذلك اختياره ورأيه ومسؤوليته، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى)).
ووفق منظور الشرع إن مظان الخلاف موجودة من الناحية النظرية، وواقعة من الناحية العملية، وأن الآيات المحكمات، قطعية الدلالة، تشكل الرؤية المشتركة الواحدة، أو القاعدة التي يقوم عليها البناء الفقهي والفكري والعقائدي، وفي الوقت نفسه تشكل الضابط المنهجي والإطار المرجعي للآيات ظنية الدلالة وإذا أحسنا إدارة الخلاف، وتحلينا بأدبه، تحول إلى خلاف تنوع وتكامل وتعاون ونمو، وأصبح علامة صحة، وما شرعت الشورى إلا كآلية لإدارة ذلك الخلاف والاستفادة من جميع الخبرات، حتى الاستفادة من خبرات (الآخر).. فالحكمة ليست حكراً على شخص أو على أمة أو على مرحلة تاريخية دون سواها، ولكنها ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.أما إذا فشلنا في إدارة الخلاف، تحول ذلك الخلاف إلى تضاد وتناحر وتفرقة، فيصبح ذلك الخلاف خطراً ماحقاً، ولاحول ولاقوة الابالله العلي العظيم.
ولعل ثرائنا الفقهي والفكري ومدارسنا الاجتهادية دليل على مدى الحرية الفكرية التي شرعها الإسلام بعيداً عن الإرهاب الفكري والتعصب الفقهي ومحاولات إقصاء الرأي (الآخر)، أما الشذوذ فلا يعتد به، بل إن الشذوذ دليل استقرار القواعد وتقعيدها.
إن العجز عن الإبداع والعطاء المقنع، والتخاذل عن التعامل مع واقع الحياة والتبصر بسننها، والتحول إلى حالة الجمود والتقليد والمحاكاة، جاءت نتيجة طبيعية لما تقدمها من آفات التعصب الفقهي والفكري والمذهبي والحزبي والطائفي والعنصري ، وإن هذه الآفات تشكل خطورة كبيرة عندما تستشري وتصل إلى مرحلة الوباء الاجتماعي وتصبح مصلحة لبعض القائمين عليها تدفعهم الى محاولة ليّ عنق النص، حتى المحكم منه، وتقديم قول صاحب المذهب أو الإمام أو المجتهد على قول الشارع المقطوع به ، وبذلك تنتقل صفة الخلود من النص الإلهي إلى اجتهادات البشر، وهذا محض باطل.وان هذه الظواهر المرضية دفعت الكثير ممن نصبوا أنفسهم قادة ، وقد يكونون جهلة بأبسط الأحكام الشرعية وأصبحوا يشهرون سيف الخروج عن الطاعة فوق رؤس العباد ، وعند ذلك تنتهك الحرمات تحت شعارات إسلامية، وتقام المؤسسات التي تأكل أموال الناس وتستهين بها، تحت شعار الإسلام، وتزهق الأرواح باسم الإسلام، ويستبد التعصب حتى يصل الأمر بأن تنسخ آية واحدة حسب رأيهم سائر الآيات والأحكام التي تعتمد الدعوة والحوار والمباهلة والمجادلة بالتي هي أحسن والقول اللين، ويُدّعى أن ذلك قول الجمهور، ويسقط القلم من الأيدي، ويشهر السلاح، ليسقط البرهان ويرفع السنان، وعند ذلك تبدأ رحلة الضلال والتضليل والعبث بالأحكام الشرعية، وتنزيلها على غير محالها، ودون توافر حالاتها وشروطها، وعند ذاك يسود جو من الإرهاب الفكري الذي يقضي على كل شيء. وهذا يتنافى مع المأثور والمنقول عن عامة الفقهاء «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» . ومن هذا المنطلق علينا أن نفهم أدب الخلاف ونقف على قواعده الأصولية وفق ما حدده الشارع الحكيم , حتى يتمخض عن هذا الخلاف نتاج فكري خصب تنتفع به الأمة بأسرها.
ومن الله التوفيق والسداد
أ.د عباس علي حميد
قسم علوم القران والتربية الاسلامية