مقالة بعنوان:طيْب الكسب والمكسب
مقالة بعنوان:طيْب الكسب والمكسب
الحمد لله الذي أحل الحلال وبين طريقه, وحرم الحرام وأوضح سبيله,والصلاة والسلام على خير خلقه وحبيبه/وعلى آله الطيبين وصحبه,أما بعد:.
إنَّ كسب الرزق وطلب العيش شيء مأمور به شرعا ,مندفعة إليه النفوس طبعا .فالله قد جعل النهار معاشا وجعل للناس فيه سبحا طويلا أمرهم بالمشي في مناكب الأرض ليأكلوا من رزقه ,وقرن في كتابه بين المجاهدين في سبيله والذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وءاخرون يقتلون في سبيل الله.
وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده ,وإنَّ نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده" رواه البخاري .
ولقد قال بعض السلف إنَّ من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة .
وفي أخبار عيسى عليه السلام أنه رأى رجلا فقال :ما تصنع ,قال :أتعبد ,قال :ومن يعولك ,قال :أخي ,قال :وأين أخوك ,قال :في مزرعة ,قال :أخوك أعبَد لله منك .
وعندنا أهل الإسلام ليست العبادة أن تصف قدميك وغيرك يسعى في قوتك ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبد ,والاستغناء عن الناس بالكسب الحلال شرف عال ,وعز منيف حتى قال الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه :"ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلي من موطن أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري".
ومن مأثور حِكَم لقمان :"يا بُنَي استغن بالكسب الحلال عن الفقر فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال ,رقة في دينه ,وضعف في عقله ,وذهاب مروءته".
إن في طيب المكاسب وصلاح الأموال سلامة الدين ,وصون العرض ,وجمال الوجه ,ومقام العز ,ومن المعلوم أن المقصود من كل ذلك الكسب الطيب ,فالله طيب لا يقبل إلا طيبا ,وقد أمر الله به المؤمنين كما أمر به المرسلين فقال عز من قائل: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبت واعملوا صالحا} وقال عز شأنه :{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبت ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} .
ومن أعظم ثمار الإيمان طيب القلب ,ونزاهة اليد ,وسلامة اللسان ,والطيبون للطيبات والطيبات للطيبين ,ومن أسمى غايات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أنه يحل الطيبات ويحرم الخبائث ,وفي القيامة يكون حسن العاقبة للطيبين {الذين تتوفهم الملئكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أكل طيبا ,وعمل في سنة ,وأمن الناس بوائقه دخل الجنة", وأخرج أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :"أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا ,حفظ أمانة ,وصدق حديث ,وحسن خليقة ,وعفة في طعمة ".
إن طلب الحلال وتحريه أمر واجب وحتم لازم ,فلن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه .
إن حقا على كل مسلم ومسلمة أن يتحرى الطيب من الكسب ,والنزيه من العمل ,ليأكل حلالا وينفق في حلال ,إلى فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يجيئه غلامه بشيء فيأكله فيقول الغلام أتدري ما هو ؟تكهنت في الجاهلية لإنسان وما أحسن الكهانة ,ولكني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت .فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شيء في بطنه .وفي رواية أنه قال لو لم تخرج إلا مع روحي لأخرجتها .اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء .
وشرب عمر لبنا فأعجبه ,فقال للذي سقاه :من أين لك هذا ؟قال :مررت بإبل الصدقة وهم على ماء ,فأخذت من ألبانها ,فأدخل عمر يده فاستقاء ,وقد كانت بعض الصالحات توصي زوجها وتقول :يا هذا اتق الله في رزقنا ,فإننا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار .
أولئك هم الصالحون يخرجون الحرام والمشتبه من أجوافهم وقد دخل عليهم من غير علمهم ,وخلفت من بعدهم خلوف يعمدون إلى الحرام ليملئوا به بطونهم وبطون أهليهم .
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ,وملبسه حرام ,وغذي بالحرام ,فأني يستجاب لذلك ,لقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة ما يدعو إلى رثاء حاله ويؤكد شدة افتقاره تقطعت به السبل وطال عليه المسير وتغربت به الديار وتربت يداه واشعث رأسه واغبرت قدماه ولكنه قد قطع صلته بربه وحرم نفسه من مدد مولاه فحيل بين دعائه والقبول أكل من حرام واكتسى من حرام ونبت لحمه في حرام فردت يداه خائبتين بربكم ماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه وحجب دعاؤه وحيل بينه وبين الرحمة لمثل هذا قال بعض السلف لو قمت في العبادة قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك وإن العجب كل العجب ممن يحتمي من الحلال مخافة المرض ولا يحتمي من الحرام مخافة النار .
إن أكل الحرام يعمي البصيرة ويوهن الدين ويقسي القلب ويظلم الفكر ويقعد الجوارح عن الطاعات ويوقع في حبائل الدنيا وغوائلها ويحجب الدعاء ولا يتقبل الله إلا من المتقين .
إن للمكاسب المحرمة آثارا سيئة على الفرد والجماعة ,تنزع البركات ,وتفشو العاهات ,وتحل الكوارث وتظالم وشحناء ,ويل للذين يتغذون بالحرام ويربون أولادهم وأهليهم على الحرام إنهم كشارب ماء البحر كلما ازدادوا شربا ازدادوا عطشا شاربون شرب الهيم لايقنعون بقليل ولا يغنيهم كثير
يستمرئون الحرام ,ويسلكون المسالك المعوجة ربا وقمار وغضب وسرقة ,تطفيف في الكيل والوزن والذرع ,كتم للعيوب سحر وتنجيم وشعوذة ,أكل لأموال اليتامى.
أيها العمال والموظفون ,أيها التجار والصناع ,أيها السماسرة والمقاولون ,أيها المسلمون والمسلمات حق عليكم تحري الحلال ,والبعد عن المشتبه ,احفظوا حقوق الناس أنجزوا أعمالهم ,أوفوا بالعقود والعهود ,اجتنبوا الغش والتدليس والمماطلة والتأخير ,اتقوا الله جميعا ,فالحلال هنيء مريء ينير القلوب وتنشط به الجوارح وتصلح به الأحوال وتصح به الأجسام ويستجاب معه الدعاء .اللهم أغننا بحلالك عن حرامك ,وبطاعتك عن معصيتك ,وبفضلك عمن سواك .
بقلم-أ.م.د.مصطفى أحمد الدليمي
أستاذ الفقه في قسم الشريعة بكلية العلوم الأسلامية