مقال بعنوان: موجز لمعنى قولهم:( رجاله رجال الشيخين)
مقال بعنوان: موجز لمعنى قولهم:( رجاله رجال الشيخين)
الحمد لله، وكفى وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الشرفا، وبعد:
فَقد عُلم بالاستقراء عند أهل الفن والاختصاص بالحديث أن للشيخين البخاريِّ ومسلمٍ شرطٌ في صحيحيهما، هما الأَقوى من بين الكُتب التي أُلفت فيما بعد في الصحيح المجرَّد، فصار تقدُمَهُمَا على جميع من صنَّف في السُّنن والمسانيد والمعاجم وغيرها من بابٍ أولى.
وجمهور أَهلِ العلم بالحديث قدَّموا ما رَواه البخاريُّ بالعنعنة في صحيحه _ لعدم اكتفائه للحكم بالاتصال بالمعاصرة، فاشترط لذلك لقاء الرَّاوي بشيخه ولو مرَّةً واحدةً_ على ما رواه مسلم الذي اكتفى بالمعاصرة مع إمكانِ اللِّقاء وبراءة الراوي من التدليس.
وللعلماء الذين جاءوا من بعدهمَا جولاتٌ وصولاتٌ تفتَّقت قَرائِحهم فيها عن علمٍ جمّ، ودُرَرٍ يتيمَةٍ غَرَّاء مختَلفٍ ألوانها، بيَّنوا فيها كثيرًا ممَّا خَفِي على النَّاس سَرْدُه، وعزَّ عليهم فَهْمُه، ممَّا لَم يُفْصح عن سرِّ إيرادِهِ الشيخان في صحيحيهما.
ونحنُ في هذه المقالة لسنا في وَاردِ بَسطِ ما فَاضتْ بهِ كتب علماءِ الحَديث المُتقدمينَ والمتأَخرين مِنْهم والمُعاصرين مِن مناقشات وسِجالات نافعةٍ ماتعة، أَفْضَتْ إليها حِواراتُهم النَّاقدة البنَّاءة، وقدمُهم الرَّاسخَة بِمعرفة غَوامض هَذا الفَنِّ وشوارِدِه بعيدًا عن التَّشغِيب وَالتَّثلِيب استجْلاءً لمَا اصطلحوا عليه من قولهم:(على شرط الشيخين) في صحيحهما، أو(على شرط أحدهما)، الى غير ذلك ممَّا خَفِي على النَّاس معرفتُه وتعلِيلهُ مِن صنِيعِ الشيخين في صحيحيهما رحمهما الله تعالى وسائرَ علمائِنا. لكنَّنا سنقتَصرُ تسليطَ الضوء على جَانبٍ من معنى عبارة:(شرط الشيخين) أو (أحدهما)، بالقَدْر الذي يُساعد على استيعابه وفهمه.
نقل الزركشيُّ عن الْحَافِظ جمال الدّين الْمزي قَولَه:
اصْطِلَاح الْمُتَقَدِّمين إِذا قَالُوا على شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم أَن ذَلِك مخرج على نَظِير رجال الصَّحِيحَيْنِ، واصطلاح الْمُتَأَخِّرين إِذا كَانَ على رجال الصَّحِيحَيْنِ.
فالواجب اعتباره لفهم شرط الشيخين فيما انتقياه أمور أهمها:
أولاً: أن يلاحظ أنهما يخرجان للراوي أصولاً ومتابعات وشواهد، فمن خرجا له في غير الأصول، فليس على شرط الصحيح.
ثانياً: أنهما يخرجان حديث الراوي عن بعض شيوخه، ولا يخرجانه عن شيخ معين مع ثقة ذلك الشيخ؛ لكون الراوي عنه ضعيفاً فيه، وذلك كسفيان بن حسين خرجا له ما لم يكن من حديثه عن الزهري؛ لأنه كان ضعيفاً فيه.
ثالثًا: يخرجان للشيخ في بعض حديثه ضعف، فينتقيان منه ما هو محفوظ دون سائره، كتخريجهما لإسماعيل بن أبي أويس وشبهه.
رابعًا: يخرجان من روايات الثقات الموصوفين بالتدليس ما ثبت أنهم لم يدلسوا فيه، أو الذين اختلطوا في أواخر أعمارهم، ما ثبت أنه ليس مما ضر به الاختلاط.
وهذا مما أغفله المستدركون على الصحيحين ما لم يخرجاه، وأبرزهم الحاكم في كتابه " المستدرك ".
ومن أشد ما عِيب على الحاكم الإخلالُ في تعقبه بسبب تساهله في تخريج أحاديث من أخرج لهم الشيخان من الرواة، دون اعتبار الصفة التي أخرج لهم عليها الشيخان.
وبين الزيلعيُّ أن الشيخين أو أحدهما قد يخرِّجان حديث الراوي فيه ضعفٌ، انتقاءً للمحفوظ من حديثه، ومن ثم فيحتجَّ بعض من بعدهم بكون الراوي خرج له الشيخان دون مراعاة هذا المعنى، فقال:" وهذه العلة راجت على كثير ممن استدرك على (الصحيحين)، فتساهلوا في استدراكهم، ومن أكثرهم تساهلاً الحاكم أبو عبد الله في كتابه (المستدرك)، فإنه يقول: هذا حديث على شرط الشيخين، أو أحدهما، وفيه هذه العلة، إذ لا يلزم من كون الراوي محتجاً به في الصحيح أنه إذا وجد في أي حديث، كان ذلك الحديث على شرطه؛ لما بيناه.
بل الحاكم كثيراً ما يجيء إلى حديث يخرج لغالب رواته في الصحيح، كحديث روي عن عكرمة عن ابن عباس، فيقول فيه:(هذا حديث على شرط البخاري)؛ يعني لكون البخاري أخرج لعكرمة، وهذا أيضاً تساهل.
وكثيراً ما يخرج حديثاً بعض رجاله للبخاري، وبعضهم لمسلم، فيقول:(هذا على شرط الشيخين)، وهذا أيضاً تساهل.
وربما جاء إلى حديث فيه رجل قد أخرج له صاحبا(الصحيح) عن شيخ معين، لضبطه حديثه وخصوصيته به، ولم يخرجا حديثه عن غيره لضعفه فيه، أو ضبطه حديثه، أو لكونه غير مشهور بالرواية عنه، أو لغير ذلك، فيخرجه هو عن غير ذلك الشيخ، ثم يقول:(هذا على شرط الشيخين)، أو:(على شرط البخاري)، أو:(على شرط مسلم)، وهذا أيضاً تساهل؛ لأن صاحبي(الصحيح) لم يحتجا به إلا في شيخ معين لا في غيره، فلا يكون على شرطهما.
وهذا كما أخرج البخاري ومسلم حديث خالد بن مخلد القطواني، عن سليمان بن بلال وغيره، ولم يخرجا حديثه عن عبد الله بن المثنى، فإن خالداً غير معروف بالرواية عن ابن المثنى، فإذا قال قائل: في حديث يرويه خالد بن مخلد عن ابن المثنى:(هذا على شرط البخاري ومسلم) كان متساهلاً.
وكثيراً ما يجيء إلى حديث فيه رجل ضعيف أو متهم بالكذب، وغالب رجاله رجال الصحيح، فيقول:(هذا على شرط الشيخين)،أو(على شرط البخاري)، أو(على شرط مسلم)، وهذا أيضاً تساهل فاحش.
ومن تأمل كتابه (المستدرك) تبين له ما ذكرناه.
فالواجب على من قصد إلى إصابة شرط الشيخين فيما لم يخرجاه أن يسلك طريقهما في الانتقاء.
وأن يجتهد في تحقيق صورة الانتقاء من أحاديث من أخرجهم الشيخان، ولا يبادر إلى الحكم على حديث بأنه على شرط الشيخين أو أحدهما بمجرد تخريجهما لذلك الراوي.
ولما كان تحقيق ذلك مما يشق ويعسر فينبغي أن يستغنى عن القول مثلاً:(حديث على شرط الشيخين) بالقول: (إسناده إسناد الصحيح) وشبه ذلك، مما لا يقع به إيهام استيفاء شروط الشيخين، خصوصاً مع استحضار أن شرط الشيخين غير مقصور على أحوال الرواة، وإنما يطلب فيه سائر شروط الصحة.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…
أ.د احمد عبدالستار جاسم
قسم العقيدة والفكر الاسلامي