مقال بعنوان: حر الصيف الشديد. العبر والعظات والاحكام
مقال بعنوان: حر الصيف الشديد. العبر والعظات والاحكام
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين أحمده تعالى حمد الشاكرين واستغفره استغفار المنيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأولين والآخرين وقيوم يوم الدين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمينُ إلى العالمين صلواتُ الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
لئِنْ كَانَ قَدَرُنَا أَنْ نَنَالَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتَضِيقَ بِذَلِكَ النَّفْسُ فَبِلاَدُنَا بِلاَدٌ حَارَّةٌ وَأَيَّامُ الصَّيْفِ فِيهَا أَيَّامٌ مُسْتَعِرَةٌ مِمَّا يَدْفَعُ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لِطَلَبِ الظِّلِّ الظَّلِيلِ وَالْهَوَاءِ الْعَلِيلِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ السَّلْسَبِيلِ فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ نَتَأَمَّلَ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ وَالاِعْتِبَارِ بَدِيعَ صُنْعِ الْوَاحِدِ القَهَّارِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍيَقُولُ اللهُ تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آلِ عمران:190-191] إِنَّهَا دَعْوَةٌ لِلتَّفَكُّرِ فِي آيَاتِ اللهِ الْمُبْصَرَةِ الْكَثِيرَةِ فَتَعَالَوْا نُلَبِّي هَذِهِ الدَّعْوَةَ فِي وَقَفَاتٍ يَسِيرَةٍ نبدأ اولا ونقول أَنَّ حَرَّ الدُّنْيَا لاَ بُدَّ أَنْ يُذَكِّرَ بِحَرِّ الآخِرَةِ وَاللهُ سبحانه جَعَلَ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَا يُذَكِّرُ بِالْجِنَانِ النَّضِرَةِ وَمَا يُذَكِّرُ بِالنَّارِ الْمُلْتَهِبَةِ الْمُسْتَعِرَةِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَة فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» (رواه البخاري) وَ«الزَّمْهَرِيرُ»: شِدَّةُ الْبَرْدِ لَقَدْ كَانَ السَلَفُ الأَبْرَارُ حِينَ يُذَكَّرُونَ النَّارَ يَأْخُذُهُمُ الْخَوْفُ وَالاِنْكِسَارُ فَيَدْفَعُهُمْ ذَلِكَ لِمَزِيدٍ مِنَ الاِدِّكَارِ وَالاِعْتِبَارِ فَهَذَا شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ الأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه كَانَ إِذَا دَخَلَ الْفِرَاشَ لاَ يَأْتِيهِ النَّوْمُ فَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنَّ النَّارَ أَذْهَبتْ عَنِّي النَّوْمَ" فَيَقُومُ يُصَلِّي حتَّى يُصْبِحَ.
الاخوة الاعزاء: إِنْ كُنَّا نَسْتَطِيعُ اتِّقَاءَ حَرِّ الشَّمْسِ فِي الدُّنْيَا بِمَا أَتَاحَ اللهُ لَنَا مِنَ الْوَسَائِلِ وَالأَجْهِزَةِ اتِّقَاءَ حَرِّ الشَّمْسِ فِي الدُّنْيَا وبِمَا أَتَاحَ اللهُ لَنَا مِنَ الْوَسَائِلِ وَالأَجْهِزَةِ وَيُمْكِنُنَا السَّفَرُ إِلَى بِلاَدِ الاِصْطِيَافِ الْمُنْعِشَةِ فَسَيَأْتِي يَوْمٌ شَدِيدُ الْحَرِّ عَظِيمُ الْكَرْبِ لاَ مَفَرَّ مِنْهُ وَلاَ مَهْرَبَ فَعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ رضي الله عنه قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا»، قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسل بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ" (أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ).
وقوله صل الله عليه وسلم : «إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ الْكَرِيمُ: وَإِذَا كَانَ الأَمْرُ بِهَذِهِ الفَظَاعَةِ فَدَاوِمْ عَلَى التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ وَلْيَكُنْ لَكَ مَكَانُكَ فِي تِلْكَ الظِّلاَلِ وَلْتَكُنْ وَاحِداً مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الأَعْمَالِ«سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بصدقة أَخْفَها حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» (رواه البخاري). وهنا لنا وقفه : هَلِ الْحَرُّ عَائِقٌ عَنْ طَاعَةِ اللهِ سبحانه؟ أَمْ أَنَّ أهل الإيمان يَرَوْنَ فِي الْحَرِّ غَنِيمَةً سَانِحَةً؟ فَهَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ لَمْ يَأْسَفْ عَلَى مَالٍ وَلاَ وَلَدٍ
وَلَكِنَّهُ أَسِفَ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَمُزَاحَمَةِ الْعُلَمَاءِ بِالرُّكَبِ وَعَلَى الظَّمَأِ فِي الصِّيَامِ أَيَّامَ الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه مُوصِياً جُلُسَاءَهُ: "صُومُوا يَوْماً شَدِيداً حَرُّهُ لِحَرِّ يَوْمِ النُّشُورِ وَصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ لِظُلْمَةِ الْقُبُورِ". وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَمَا مِنَّا أَحَدٌ صَائِمٌ إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ". إِخْوَةَ الإِسْلاَمِ: إِنَّ مِنْ وَسَائِلِ اتِّقَاءِ حَرِّ جَهَنَّمَ: الْمَشْيَ إِلَى الْمَسَاجِدِ لِلْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ وَشُهُودَ الْجَنَائِزِ وَنَحْوِهَا مِنَ الطَّاعَاتِ لاَ سِيَّمَا أَيَّامَ الصَّيْفِ الْحَارَّةَ فَكُلَّمَا اشْتَدَّ الْحَرُّ زَادَ الأَجْرُ فَالأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ وَلَعَلَّ الرُّجُوعَ مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فِي حَرِّ الظَّهِيرَةِ يُذَكِّرُنَا بِانْصِرَافِ النَّاسِ مِنْ مَوْقِفِ الْحِسَابِ فَرِيقٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ إِلَى السَّعِيرِ فَإِنَّ الْقِيَامَةَ تَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلاَ يَنْتَصِفُ ذَلِكَ النَّهَارُ حَتَّى يَقِيلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ سبحانه: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24]، وَقَالَ عَنِ الْفَرِيقِ الآخَرِ: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات:68] أَنَّ ابْنَ آدَمَ مَلُولٌ قَدْ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِأنَّهُ ظَلُومٌ جَهُولٌ وَمِنْ جَهْلِهِ: عَدَمُ رِضَاهُ عَنْ حَالِهِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْقَائِلُ: يَتَمَنَّى الْمَرْءُ فِي الصَّيْفِ الشِّتَاءْ *** فَإِذَا جَاءَ الشِّتَاءُ أَنْكَرَهْ فَهُوَ لاَ يَرْضَى بِحَالٍ وَاحِدٍ *** قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهْ لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ الْحَصِيفَ لاَ يُكْثِرُ التَّذمُّرَ مِنْ حَرِّ الصَّيْفِ بَلْ يُبَادِرُهُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ وخصوصاً ما اشتدت لها الحاجة في وقت الحر ومن أعظمها وضع آماكن للظل وكذلك السقيا لمن يحتاجها وان لم يكن فقيراً بل حتى الدواب والطيور فإن: «في كل كبد رطبة صدقة» (رواه البخاري). وقد جَاءَ فِي وَصِيَّةِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لاِبْنِهِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما: "عَلَيْكَ بِخِصَالِ الإِيمَانِ: الصَّوْمِ فِي الصَّيْفِ، وَضَرْبِ الأَعْدَاءِ بِالسَّيْفِ، وَإِبْلاَغِ الْوُضُوءِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِي". واخيرا عباد الله : فِي تِلْكُمُ الشَّمْسِ بِضَخَامَتِهَا فِي الْخَلْقِ وَلَهَبِهَا الْمُحْرِقِ عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِينَ فَإِنَّهَا تَسْجُدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَحْتَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ وَهِيَ مُطِيعَةٌ مُذْعِنَةٌ فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنَ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلاَ يُقْبَلَ مِنْهَا وَتَسْتَأْذِنَ فَلاَ يُؤْذَنَ لَهَا يُقَالُ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38]». فَعَلاَمَ يَتَكَبَّرُ بَعْضُ بَنِي آدَمَ عَنِ السُّجُودِ لِرَبِّهِمْ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السُّجُودِ يَقُولُ اللهُ تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ . خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَْ} [القلم:42-43] وَيَقُولُ تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَْ} [المرسلات:48].والحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا وَدُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا وَآخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً دَارَ أَمْنٍ وَإِيمَانٍ وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ. وصل الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واصحابه الغر الميامين.