الإصلاح في فكر وسلوك الحسن والحسين رضي الله عنهما
بقلم: ا.د عوض جدوع أحمد
الحمد لله الذي جعل في كل أمة ورثة للأنبياء يدافعون عن القيم ويحملون مشعل الإصلاح، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله الطاهرين وصحابته الغر الميامين
وبعد.
في مطلع كل عام هجري، نقف مع لحظاتٍ خالدةٍ من التاريخ، لا تُروى لمجرد الاستذكار، بل لأنها تحمل في طياتها رسائل خالدة ترسم معالم الطريق للمصلحين في كل زمان. فشهر محرم ليس كبقية الشهور، إنه شهرٌ أصم، تعظمه الشرائع، وتنبض فيه ذكريات متجذرة في وجدان الأمة، أبرزها يوم عاشوراء، الذي جمع بين فرحة هلاك الظالم، فرعون، وحزن الأمة على استشهاد سيدنا الإمام الحسين رضي الله عنه.
ومن هذه الذكرى المؤلمة تنبثق أعظم صور الإصلاح في فكر وسلوك سبطي رسول الله ﷺ، الحسن والحسين رضي الله عنهما، اللذين جسّدا أعظم صور الإصلاح، كلٌّ بطريقته، بحسب ما اقتضته ظروف زمانه، في وحدة بين الفكر النقي، والسلوك النبيل، والغاية الإصلاحية النبيلة.
الإصلاح في المنظور الإسلامي ليس شعارًا يُرفع، بل سلوكٌ يُمارس ومنهجٌ يُتَّبع. وقد فرّق القرآن الكريم بدقة بين دعوى الإصلاح وحقيقته، فقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ
بهذا الميزان، نَفهم أن الإصلاح يُوزَن بالحق، لا بالادعاء، ويُقاس بتوافقه مع القرآن والسنة لا بالشعارات. والظلم، وإن لبس لبوس الإصلاح، يظل فسادًا. والعدل، وإن وُوجه بالتشويه، يبقى إصلاحًا.
لقد كان الإمام الحسن رضي الله عنه فقيهًا في قراءة الواقع، حكيمًا في اختيار الأنسب لدفع المفاسد، وإعلاء المصلحة العامة على النزعات الفردية. لم يكن تنازله عن الخلافة ضعفًا، بل كان عين الشجاعة والعقل السياسي الراجح، ليحقن دماء الأمة ويمنع اقتتال المسلمين.
لقد سار الإمام الحسن على نهج جده ﷺ في توقي الفتن وسدّ ذرائع الفوضى، وهو بذلك يقدم نموذجًا للإصلاح عبر التنازل عن الحق الشخصي من أجل المصلحة العليا. لقد سُئل: “ما حملك على ما صنعت؟”، فقال: “كرهت أن أقتلهم على الملك”. وهذا غاية السمو، حين يكون الإصلاح أثمن من الحكم، والدم المسلم أعز من سلطة أو منصب. .
إذا كان الحسن إمام الإصلاح بالصلح، فإن الحسين هو إمام الإصلاح بالموقف والثبات على المبادئ، ولو على حساب حياته. لقد خرج الحسين رضي الله عنه لا طلبًا لسلطة ولا اندفاعًا لمغامرة، بل ليقيم الحجة على الظالمين، وينكر المنكر، ويوقظ الضمائر النائمة.
قال في بيانه الخالد: «إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا ظالمًا ولا مفسدًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي». فكانت كربلاء فصلاً من فصول النور في تاريخ الإنسانية، حيث سقط الجسد، وبقيت الرسالة، واستُشهد الإمام، وبقيت الموعظة الخالدة: أن لا صلاح بدون مواجهة للباطل.
فليس هناك مسلم في الأرض لا يهتز قلبه حزنًا على استشهاد الحسين، الذي قال عنه النبي ﷺ: «حُسَيْنٌ مِنِّي، وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا».
ومن هنا كانت محبة الصحابة للحسنين عظيمة، كما كانت محبة النبي ﷺ لهما. قال عمر بن الخطاب للحسين: “يا بني، وهل أنبت على رؤوسنا الشعر إلا الله ثم أنتم”. وكان يفرض لهما كما لأبيهما، بل أرسل بكسوة خاصة من اليمن تليق بمكانتهما.
وها هو عمرو بن العاص يقول في ظل الكعبة: “هذا أحب أهل الأرض إلى أهل السماء اليوم”.
فإذا كان هذا حبّ الصحابة للحسنين، فكيف يُقبل أن يُتهم أحدهما بالإفساد، أو أن يُخذل حين يكون صوته صوتَ الحق والضمير؟!
بين أقسى ظالم، وأغلى مظلوم، تقف الأمة على منصة الامتحان، تختبر ضمائرها، وتُوزن مواقفها. فإما أن تسير خلف دعوى الإصلاح الكاذبة، وإما أن تهتدي بمناراته الحقيقية كما في سيرة الحسن والحسين رضي الله عنهما.
لقد كانا، بحق، مناراتٍ للصلح والإصلاح: الحسن بالصفح والصلح، والحسين بالثبات والتضحية. وجمع الله لهما بذلك مجدَي الدنيا والآخرة، وبقي ذكرهما في العالمين نداءً خالدًا لكل من أراد الإصلاح في زمنٍ عمّ فيه الظلم.
اللهم اجعلنا من أتباع نهجهم، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وارزقنا نصرة المظلومين، والقيام مع الحق في كل زمان ومكان.
