الإمامُ الحُسينُ عليهِ السّلامُ وتجديدُ الهُويّةِ الإسلاميّة: قراءةٌ في نهضتِه وعطاءِه الإصلاحيّ
أ.د. حسن محسن صيهود
يُمثِّلُ الإمامُ الحسينُ عليهِ السّلامُ نقطةَ تحوُّلٍ كبرى في مسارِ التاريخِ الإسلاميّ، بل في الوعيِ الدينيِّ والإنسانيِّ على السواء. فحركتُهُ المباركةُ لم تكن مجرّدَ خروجٍ مسلّحٍ ضدّ حاكمٍ جائر، وإنما كانت مشروعًا شموليًّا لإعادةِ صياغةِ الوعيِ الجمعيِّ الإسلاميِّ على أُسسٍ من العدلِ والكرامةِ والتوحيدِ الخالص. وُلِدَ الإمامُ الحسينُ عليهِ السّلام في بيتِ الوحي، بيتِ النبوّةِ والطُّهرِ، سنةَ أربعٍ للهجرة، وترعرعَ في كنفِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله، الذي كان يُعلِنُ مرارًا حبَّهُ له، ويُوصي بهِ وبأخيهِ الحسن، ويقول: «اللهم إنّي أُحبُّهما فأَحبَّهُما». وقد وصفهُ النبيُّ صلّى الله عليه وآله في موضعٍ آخرَ بقوله: «حسينٌ مني وأنا من حسين» ، وهو تعبيرٌ يفوقُ الإشارةَ النسبيةَ إلى الإشارةِ الرساليةِ.
لم يكن الحسينُ ابنَ بيتِ النبوّةِ فحسب، بل كان حاملًا للرسالةِ بعدَ أن انحرفتِ الخلافةُ عن موضعِها الشرعيّ، واستحالت إلى حكمٍ أمويٍّ قائمٍ على العصبيّةِ والبطشِ والترفِ، خصوصًا بعدَ تولّي يزيد بن معاوية للحكم سنة 60هـ، وهو الذي وصفهُ الإمامُ الحسينُ عليهِ السلام بقوله: «رجلٌ فاسقٌ، معلنٌ بالفسق، شاربٌ للخمر، قاتلُ النفسِ المحرّمة، ومثلي لا يبايعُ مثله». رفضَ الإمامُ الحسينُ عليهِ السلام هذا الانحدارَ السياسيَّ والعقديَّ، وأدركَ أنّ الصمتَ عليهِ يُكرّسُ الباطلَ ويُفرّغُ الإسلامَ من جوهرِه، فخرجَ لا طالبًا لسلطانٍ ولا مُتنازعًا على ملكٍ، بل كما صرّح بنفسِه: «إنّي لم أخرجْ أشرًا ولا بطرًا ولا ظالمًا ولا مفسدًا، وإنّما خرجتُ لطلبِ الإصلاحِ في أمّةِ جدّي، أُريدُ أن آمرَ بالمعروفِ وأنهى عن المنكر» تُعدُّ كربلاء تتويجًا لهذا المشروع الإصلاحي، إذ رسم الإمامُ الحسينُ فيها معالمَ الهُويّةِ الإسلاميةِ الأصيلةِ، القائمَةِ على الرفضِ الواعيِ للظلمِ، والثباتِ على المبدأ، والتضحيةِ لأجلِ الدين، وقد خاطبَ القومَ بصرامةٍ وشجاعةٍ قائلاً: «ألا وإنّ الدعيَّ ابنَ الدعيّ قد ركزَ بين اثنتين: بين السِّلَةِ والذلّة، وهيهات منّا الذلّة» لم تكنْ هذه الكلماتُ موقفًا لحظيًّا، بل كانت إعلانًا لميلادِ الهويّةِ الحسينيّة التي تقومُ على العزّةِ والوعيِ والإباء، لا الخضوعِ والانقيادِ الأعمى. في يومِ عاشوراء، استُشهدَ الإمامُ الحسينُ وأهلُ بيتِه وأصحابُهُ الأوفياءُ، بعدَ أنْ تجسّدتْ فيهم أسمى معاني الفداءِ والثباتِ على المبادئ، فأُريقَ الدمُ الطاهرُ ليُروِي شجرةَ الإسلامِ التي كادت أن تجفَّ جذورُها. وبهذا استحالت كربلاءُ إلى منصةٍ تاريخيّةٍ لتجديدِ الإسلامِ، لا بالنصوصِ فقط، بل بالدماءِ الزكيةِ والمواقفِ الصلبة.
ولذلك لم يكن الإمامُ الحسينُ شهيدَ لحظة، بل شهيدَ مشروعٍ دائمٍ لتجديدِ وعيِ الأمّة، وبناءِ هويّتها على الصدقِ والإخلاصِ والبصيرةِ. ومن هنا نفهمُ مقولةَ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله: «إنّ الحسينَ مصباحُ الهُدى وسفينةُ النجاة» لأنّه أحيا بموقفهِ الإسلامَ حين كاد أن يُفرَّغ من محتواهُ التربويِّ والسياسيِّ والروحيّ. إنّ نهضةَ الإمام الحسين عليه السلام هي المنارُ الذي ينبغي أن يُستضاءَ به في كلِّ عصرٍ يضطربُ فيه الفهمُ، وتلتبسُ فيهِ الحقائقُ، ويستفحلُ فيهِ طغيانُ الساسةِ على حسابِ المبادئ. فالحسينُ لم يُقاتِل من أجلِ طائفةٍ، بل من أجلِ مبدأ، ولم يُضحِّ لأجلِ مجدٍ، بل لأجلِ بقاءِ رسالةٍ. ومن ثمّ، تبقى ثورتُهُ مشروعًا حيًّا يُلهمُ الأحرارَ في كلِّ مكان، ويُعلّمُ الأجيالَ أنَّ الكلمةَ الصادقةَ، حين تصدرُ عن قلبٍ طاهر، قادرةٌ أن تُدوّي في وجهِ التاريخِ إلى الأبد.
