مقال بعنوان: الروح في القرآن الكريم
مقال بعنوان: الروح في القرآن الكريم
الروح من الألفاظ التي خاض اهل العلم في تعريفها وبيان طبيعتها, وتخبط الفلاسفة في تحديد ماهيتها والوقوف على حقيقتها, وهي في النهاية من المعاني التي استأثر الله بعلمها, ولم يجعل للإنسان سبيلاً إلى معرفتها, عرف ذلك من عرف, وجهله من جهل, وكابر فيه من كابر, قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} الإسراء: ٨٥ .
ولفظ الروح ورد في القرآن الكريم في ثلاث وعشرين موضعاً, وردت جميعها بصيغة الاسم, من ذلك قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}النحل: ٢
ولم يرد لهذا الاسم صيغة فعلية في القرآن.
أما قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}النحل: ٦,فهو مأخوذ من راح يروح, إذا رجع وهو مقابل ل(غدا يغدو, إذا ذهب, وعلى هذا ايضاً قوله عز وجل: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}سبأ: ١٢
ولفظ (الروح ) ورد في القرآن الكريم على عدة معان نذكر منها:-
- الروح بمعنى ( الحياة التي يكون بها قوام الكائنات), ومنه قوله تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي }الإسراء: ٨٥ , فسر ( الروح) في الآية هنا على انه العنصر المركب في الخلق الذي يحيا به الانسان. قال الشوكاني:" اختلف الناس في الروح المسؤول عنه, فقيل: هو الروح المدبر للبدن الذي تكون به حياته, وبهذا قال اكثر المفسرين". ونقل الشوكاني اقوالا اخر في معنى الآية ثم قال:" والظاهر القول الاول", يعني ما تقدم.
- الروح بمعنى( ملك من الملائكة), ومنه قوله تعالى :{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا}النبأ: ٣٨ , قيل في معنى الآية: انه ملك من الملائكة, وقد نقل الطبري اقوالا اخر في الاية, بيد انه لم يقطع بواحد منها. ومال ابن كثر الى ان يكون المقصود ب(الروح) في الآية بني ادم.
- الروح بمعنى ( القرآن والوحي) ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}الشورى: ٥٢, قال ابن كثير: يعني القرآن. ونحوه قوله سبحانه: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ }النحل: ٢ , قال القرطبي: الروح: الوحي.
- الروح بمعنى (جبريل), ومنه قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ }النحل: ١٠٢, يعني: جبريل عليه السلام. ومن هذا القبيل قوله سبحانه: { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ }البقرة: ٨٧, قال الطبري : الروح في هذا الموضوع: جبريل.
- الروح بمعنى( النصر) , ومنه قوله تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}المجادلة: ٢٢ , قال الشوكاني: قواهم بنصر منه على عدوهم في الدنيا, وسمى نصره لهم روحا لان به يحيا امرهم . وقيل : (الروح) في الآية هنا بمعنى : البرهان.
- الروح بمعنى (الرحمة), ومنه قوله تعالى: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} يوسف: ٨٧
قال قتادة: أي من رحمة الله, ومن هذا القبيل قوله سبحانه وتعالى: { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}النساء: ١٧١قيل في معنى الآية :معناه في هذا الموضع: ورحمة منه. قالوا: فجعل الله عيسى u ورحمة منه على من اتبعه وآمن به وصدقه, لأنه هداهم إلى سبيل الرشاد, وهذا على قول في معنى الآية.
- الروح بمعنى( الراحة من الدنيا) ومنه قوله تعالى{ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} الواقعة: ٨٩ قال ابن عباس رضي الله عنهما :فرحة من الدنيا, وقال الشوكاني: معناه الراحة من الدنيا, والاستراحة من احوالها.
- الروح بمعنى( القدرة الإلهية على الخلق), ومنه قوله تعالى: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}الحجر: ٢٩ اي: ان الانسان مخلوق من خلق الله وكائن بقدرته.
هذه اهم المعاني التي ورد عليها لفظ( الروح) في القرآن الكريم, والمهم في هذا السياق أن ندرك أن معرفة حقيقة (الروح) أذ ليس لاحد من سبيل إليها, بل هي مما اختص الله سبحانه بعلمها, ولعل الحكمة من إخفاء علمها عن المخلوقات, أن يتأمل الانسان ويتحقق أن الروح التي جعل الله بها الحياة والراحة والقوة والقدرة والحس والحركة والفهم والفكر والسمع والبصر… وهي من أمر الله, وهو يباشرها ويعايشها مدة حياته وطول عمره, ومع ذلك لا يصل علمه إلى شيء من كنه حقيقتها ودرك معرفتها, فكيف يطمع في الوصول إلى حقيقة خالقها وبارئها, قال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}الأنعام: ١٠٣ .
أ.د. علي عبد كنو الجواري
قسم الشريعة